جاء في الأثر: (إنّما يَعرفُ الشعرَ من دُفِعَ إلى مضايقِهِ) وهو قولٌ بليغٌ عارفٌ بالأسرار ومستوعبٌ لجدل الحساسيّة الشعريّة الباطنيّة مع الأشياء، حين نتحرّى معرفةَ الشعر على النحو الذي يرتقي إلى مقامه ويستجيب لخصوصيّته الأدبيّة الأجناسيّة، وحين نُدركُ الصعوبة التي تنطوي عليها هذه المَهمّة لأنّ الشعرَ يستعصي فهمه على كلِّ مُحاوِلٍ أو مُجرّبٍ، يسعى نحو الإمساكِ بجمرة الشعر التي لا تُمسكُ، إذ مهما توغّلنا في فضاء الفهم الشعريّ واكتشفنا أسرار القصائد يتبقّى قدرٌ من الظلال والجيوب والشذرات والكِسَر الشعريّة عصيّة على الاستيعاب الكامل لفرط تعميته وغموضه، كي يحرّضنا على مزيد من القراءة والبحث والتذوّق والاستقصاء والتقصّي والتحليل والتأويل.
(المضايقُ) هي العُقَدُ التي تقف في سبيل المُبحِر نحو هدفه خائضاً في لجّة المياه والأمواج فتعيقهُ وتحرجهُ، ويحتاج دائماً إلى حلّ نوعيّ ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من الابتكار والأصالة والجرأة والبسالة، ومن لا يتمتّع بالكفاءة المطلوبة في هذا السياق فإنّ أيّ مضيق من هذه المضايق كفيل بتحطيم تجربته وإلغائها، فالعبرة إذن في التصدّي لهذه المضايق ،مضيق إثرَ مضيق حتى ينجح في اجتياز هذه العُقَد والتزوّد بالخبرة الضروريّة لمواصلة الطريق، ومضاعفة المعرفة بما تنتجه أحوال الصراع والمكابدة وعَصرِ العقل المُجَرّب عصراً كي يضيء ليكون عارفاً بطبقات الميدان ويتحسّس طيّاته وظلاله وزواياه عن كثب.
وإذا كان دالّ المضيق على المستوى اللغويّ المعجميّ قادماً من الجذر الثلاثيّ (ضاقَ/يضيقُ)، فإنّ الوصف المشتقّ منه للمكان هو (ضيّق) في تقديرٍ لمعنى المحدوديّة في إشغال أقلّ حيّزٍ ممكنٍ للشيء، ومنه مفردة (مضيق) وجمعه (مضايق) للدلالة على أمكنة بَحريّة تفصل بين بَحرَين كبيرين أو مُحيطَين، ويتكسب شهرته عادةً من خصوصيّته المكانيّة الفريدة على هذا النحو، وينطوي على أهميّة ستراتيجيّة كبيرة لفرط ثرائه الموقعيّ على الصعيد التجاريّ العالميّ الخطير، ويمكن استلال هذه المعاني كلّها من مقولة (مضايق الشعر) التي وضعها هذا القول موضع الفاعليّة في مقاربة نظريّة الشعر.
الدفع إلى المضايق يأتي نتيجة ضغط يستلزمه البحث عن آثار القصائد ونثارها وظلالها وتجلّياتها يسهّل الكشف عن الأسرار المخبوءة، وهو ما يقتضي التعرّف الدقيق على المداخل والمخارج التي تؤدّي من وإلى كلّ مضيق، فالدفع إليها يضع المُبحِرَ في مشكلة تقوده إلى الكشف عن خصوصيّة كلّ مضيق بحثاً عن منفذ خلاصٍ من محنةٍ يتوفّر الخلاصُ منها على معرفة جديدة بالخبايا، فالمضيقُ هو حلقة وصل بين ماءين واسعين ينفتحان على آفاق عظيمة ويكشفان عن فلسفة التعامل مع المكان الضيّق وسبل تجاوزه بحكمةٍ وأناقةٍ ومعرفةٍ، فضلاً عما تضيفه هذه المحنة المضيقيّة من خبرة وتجربة ومعرفة تتقرّب من نار الشعر المُخاتِلة التي لا تمنح نورها بسهولةٍ وبلا ثمن.
تجربة المضيق تجربة قاسية وثرية وتحتاج إلى تركيز عالٍ في التعامل مع مفرداته، وإذا كانت المضايق الطبيعيّة يمكن تجاوزها وعبورها بخبرةٍ بسيطةٍ ومعرفةٍ مختصرةٍ تلبّي طموح الراهن، فكيف بمضايق اللغة ذوات العُقَدِ التي تحتاج إلى حظً كبير من الخبرة والمعرفة والجسارة لتجاوزها وعبور ألغامها ومكائدها؟.
اللغة كلّها مضايق أساساً من منصّة انطلاق دوالّها حتّى مصبّ مدلولاتها، فكيف بلغة الشعر الملتبسة على ذاتها وعلى ما حولها؟ لأجل أن يجتاز الشاعر محنةً لغويةً معيّنةً يحتاج إلى موهبةٍ وذكاءٍ وحظٍّ لذا يَعْلَقُ الكثير ممّن يُصنَّفون على أنّهم شعراء في هذه المضايق ولا ينجو منهم إلّا القليل، ولا شكّ هنا في أنّ النجاة في المعرفة وحدَها فقط، ومن غير هذه المعرفة فإنّ هذا البعض سيجد نفسه خارج لعبة الشعر بلا مُعينٍ أو نصيرٍ أو مخلّصٍ، وعلى هذا يمكن القول إنّ (الناقد الشاعر) يعرفُ ويشعرُ ويرى وينفعلُ ويتفاعلُ أكثر من الناقد غير الشاعر، لأنّ الشاعرَ الناقدَ هو من خاض لجّة المضايق كلّها ببسالةٍ ومتعةٍ وقصديّةٍ وتعلّم كيف يدير اللعبة من داخلها بمهارةٍ وبراعةٍ، وأدرك أسراراً كثيرةً في هذا السبيل، وعرف ما لا يعرفه غيره مهما بلغ من البحث في شؤون الشعر وشواغله نظريّاً، فحين تلتقي الذات الشاعرة بالذات الناقدة في مصير إبداعيّ واحدٍ مشتركٍ تولد المعرفة بالشعر في أعلى مقاماتها.
الإحساس المجرّدُ لا يكفي من غير وَجْدٍ ومكابدةٍ وتصوّفٍ أصيلٍ في محراب اللغة والاجتهاد في بعثها بعثاً جديداً من رمادِ المعاني وطِينِ العلامات، فالانتماء للحالة انتماءً مصيريّاً حاسماً يكون الشعرُ فيه هو الشاغلُ العشقيُّ الوحيدُ للشعر، يمثّل العتبة المركزيّة الرئيسة التي تمنح الشاعر هُويّة المرور إلى وطنِ الشعرِ وشعبهِ وأرضهِ وشعابهِ ومياههِ وعقلهِ وجنونهِ، لأنّ هذا الانتماء إنّما هو بطاقة تعريفٍ تؤكّد مرور حاملها من مضايقَ دُفِعَ إليها واجتاز امتحانها واكتسب معرفة نوعيّة خاصّة لا يعرفها غيره، هذا يعني أنّ الشاعر في توصّلاته بحثاً عن مصيرٍ شعريّ يليق به وبشعره إنّما يخوضُ في تجارب عميقة ليس من السهلِ إنجازها من دون خسائر، قد تدخل هذه النتائج المصيريّة في قدرة الشاعر على تحمّل مسؤوليّة الرسالة التي يحملها في طيّات تجاربه، وهي تتوجّه نحو العالم على نحوٍ ينبغي أن تكون فيه على أعلى مستوى من الخبرة والصنعة والمعرفة والإحساس والتمثّل والصيرورة.
ثمّة ما يُحسّ في مُدرَكٍ ما من مدركات عقل الإنسان وروحه وحساسيّته ووجدانه، ولا يمكن توضيحه لفرط غموضه واستتاره وإضماره ليبقى عصيّاً مستعصياً إلا على من خَبِرَ أرضَ الشعرِ ورملَه وماءه وطبقاتِه الدنيا وأحوالَه، فالعِلمُ النظريّ بالشعر يُنتِجُ عالِماً كبيراً بقضاياه وشؤونه وشجونه العامة أمّا ما يختفي تحت جلده من مواجد واستيهامات وإيقاعات سريّة وتجلّيات عميقة فلا تنكشف إلا لمن دُفِع إلى مضايقه وحرث مياهه بمعول الحبّ والموهبة والإيمان والانتماء والحريّة، فتجربة الدفع إلى المضايق هي جوهر التجارب التي يمرّ بها الشاعر الحقيقيّ المُجرّب وهو يفتح عقله الشعريّ ووجدانه الشعريّ وحساسيّته الشعريّة على أوسع مساحة ممكنة، ويتشرّب ماء التجربة ونداها ونورها ورملها الساخن، متسلّحاً بقوّة الاقتراب الحثيث من نار الشعر في أعلى التماعات وهجه وأمتع لسعاته الخاطفة، ففي كلّ مضيق من هذه المضايق درسٌ مكتظٌّ بالخبرات والأعطيات والهدايا الثمينات، وفي كلّ عائقٍ اشتغالٌ وجهدٌ وعزيمةٌ وإصرارٌ واندفاعٌ وصبرٌ كبيرٌ حتّى يتمّ العبورُ وتبدأ مرحلة جديدة باتجاه مضيقٍ أعسر، فمن لا يصطدمُ بهذه المضايق ويذوقُ لوعتها ويجرّبُ مسالكها الملتوية لن يُكتبَ له معرفة الشعر على النحو الضروريّ المطلوب، ولن يكون له شأنٌ في عالمها.