محطات القراءة المبكرة
د. عبد الجبار الرفاعي
لم أر في المرحلة الابتدائيَّة كتابا غير الكتب المدرسيَّة، ولا أتذكر رأيت كتابا في بيت أحد في قريتنا، فالفلاحون من جيل آبائنا لا يقرؤون ولا يكتبون. عندما كان أخي الكبير يذهب للزيارة، يجلب معه كراسات لقصص تباع في أروقة العتبات المقدسة، بجوار كراساتِ الدعاء والزيارة. قرأت قصصَ: الميَّاسة والمقداد، والسندباد البحري، وغزوة بئر ذات العلم، وعنترة بن شداد... وغيرها. أول قصة قرأتها أشعرتني بسحر غريب للقراءة يتغلغل في كياني، وأغرقت ذهني برحلة خياليَّة مدهشة بمعيَّة بطل الحكاية.
منذ ذلك الحين هيمنت القراءةُ على مشاعري، بشكلٍ لا أقوى على التخلّصِ منه والانصرافِ إلى شؤون حياتي المتنوّعة. المطالعة سياحةٌ مؤنِسة، كلّما قرأتُ كراسةً من هذه القصص يتضاعف ولعي بالقراءة، بنحوٍ صار هذا الولعُ يتعاظم إلى درجة عطّل معه ولادةَ الاستعدادات المتنوعة الكامنة بداخلي. بدأ احتياجي للكتابِ يتنامى، وصرتُ أشعر بأنّه يحميني من الوحدةِ ووحشةِ الحياة واكتئابِ غياب الأحبة. هذا النوعُ من تغلّب الكتاب على كيانك يجعل امتلاكَه أحدَ الأماني وأمضاها أثرًا في حياتك. نشأت مكتبتي بهذه الكراساتِ وأشباهِها، أصبحتُ أكرّر مطالعتَها، وأضيف لها ببطءٍ وعلى فترات متباعدة ما أظفر به. ما يُضاف لمجموعتي الفقيرة من كراساتٍ أطالعها، استظهر شيئًا من عباراتها وفقراتها. أكرّر التحدّثَ بهذه القصص لأمي وأهلي وزملائي التلامذة، كأني تلبّستُ حرفةً حكواتي القرية. لم تكن في ستينيات القرن الماضي مكتبةٌ لبيع الكتب في مدينتَي: قلعة سكر أو الرفاعي حيث يكون تسوّق أهلنا. التسوق متباعد الفترات، لا يحدث إلا بضعةَ مرات في السنة، لا مالَ لدى الفلاحين، لا طريقَ مواصلات يربط القريةَ بالمدينة، لا وسائلَ نقلٍ غير الخيل، ولا يصطحب الآباءُ الأبناءَ للمدينة إلا في حالات الضرورة القصوى.
في الشطرة بدأتُ المطالعةَ الجادة، وفيها ولدتُ ثقافيًا، وتشكلت النواةُ الجنينيَّة للوعي في هذه المدينة المعروفة منذ منتصف القرن الماضي بفاعليتها السياسيَّة والثقافيَّة. اكتسبتُ بفضل العيش فيها شيئًا من تقاليد المدن وتحضرها، وتذوقتُ بهجةَ ألقها تلك الأيام. وفّر لي السكنُ المخصّص للتلامذة، وتأمينُ متطلبات الطعام والاحتياجات الأساسية بشكل مناسب، نمطًا بديلًا لعيش الكفاف الذي لازمني وأنهكني منذ بداية حياتي. وجدتُ نفسي وسط فضاءٍ شبابي حيوي، تثريه مواهبُ متنوعة لتلامذةٍ وفدوا من مختلف أقضية ونواحي وقرى محافظة ذي قار جنوب العراق، كانت ثانوية زراعة أكَد في الشطرة هي الثانوية المهنية الوحيدة في المحافظة ذلك الوقت. تتفاعل الحياةُ الثقافيّة في سكن طلابها بديناميّة خلّاقة، تتنافس فيها اهتماماتٌ أدبيّة وفنيّة وثقافيّة بهامش حرية رحب، فتحفّز من لديه شغفٌ بالمعرفة وحرصٌ على القراءة للاندماج في سياق هذه الديناميّة. عفويّة هذه الحركة جذابة، لا التزامات غير الدراسة، لا اجتماعات، لا حلقات منظمة تفرض واجباتِها الرتيبة، لا أحزاب معلنة تحتكر المواهبَ وتعطلها، وتسكب التفكيرَ وتجمده في أدبياتها المغلقة وقوالبها الأيديولوجية، قلّما كان أحدٌ من الطلاب بدايةَ المرحلة الثانوية ينتمي لحزبٍ سياسي ذلك الزمان. القراءة حرّة، الصداقات تولد بعفوية، وتترسّخ بمزيدٍ من الشوق والعطاء، تحرسها المودة، ولا يهدّدها فهمٌ عميق لتناقضات الإنسان والواقع. يكرّسها الصدقُ والوفاء، ويرسّخها الفهمُ المبسّط لكلِّ شيء. أظن أن هذا النوعَ من الفهم أحدُ ضمانات الصداقة الصادقة، وأظن أن الفطنةَ والفهم العميق لتناقضات الإنسان والواقع، بقدر ما يجعلا الإنسانَ أكثرَ معرفة بالحياة، يمكن أن يفسدا عليه الصداقةَ أحيانًا. الذكاء الفائق يمحو البراءة، عندما يجعل الإنسانَ يتأمل بدقةٍ أبسطَ المواقف والكلمات العفوية، ويحاول أن يفتش عن بواعثها العميقة، وما يمكن أن تضمره من دوافع خفية ونوايا شريرة. الأخلاقُ الفطرية من عطايا بيئة طلاب الريف التقليدية، كانت هذه الأخلاقُ تحرس الصداقاتِ من العواصف الطائشة والمواقف النزقة، وضمنت حتى اليوم استمرارَ بعضها، وصمودَها أكثر من نصف قرن في مختلف الأحوال والتقلبات والعواصف. ما يربحه الإنسانُ من صداقات المراحل الدراسية الأولية وأيام الشباب أنها الأطول عمرًا؛ فأكثر الصداقات اللاحقة تمحوها الأيامُ بنرجسياتِ بعض الأشخاص المتضخمة، وانفعالاتِهم الطائشة، والتوقعاتِ المبالغ فيها بقدرة الآخر على العطاء العاطفي والمادي اللامحدود مجانًا. فوجئتُ بداية المرحلة الثانوية بوجود مكتبةٍ عامة في الشطرة تقع في أقرب محلة لمدرستنا. فرحتُ بالعثور عليها بدايةَ السنة الأولى من إقامتي في السكن الطلابي. الكتبُ الجديدة الواردة للمكتبة، قبل إيداعها ووضعها على الرفوف، تلبث مدةً معروضة ليتعرّف عليها القراء، تناولتُ كتابًا لمحتُه على رفوف عرض الجديد الوارد للمكتبة. قرأتُ عنوانَه على الغلاف: «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث»، الجزء الأول، تأليف: د. علي الوردي. لم أسمع بهذا المؤلف من قبل، جلستُ أطالع هذا الكتاب، بهرتني لغةُ الكاتب الواضحة المباشرة، وشجاعةُ عقله، وتحليلُه للظواهر الاجتماعية المختلفة، وتفسيرُها بطريقة علمية أتعرّف عليها أول مرة في حياتي. آفاق هذا التفسير تتوكأ على عقلانيةٍ نقدية، وجرأةِ تسمية الأشياء بأسمائها، تحاول اختراقَ سطح الظاهرة واكتشافَ ما هو خفيّ من عوامل توليدها. لم يكن في المكتبة العامة غيرُ هذا الجزء، عندما أكملتُه تنقلتُ بين كتب عديدة، لا أتذكر أن أحدَها فرض حضورَه على الذاكرة، ما خلا كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، الذي قرأتُه بعد سنةٍ من قراءة كتاب الوردي، كنتُ أقرأ أيَّ كتابٍ أراه، أدركتُ متأخرًا أن «معالم في الطريق» كان نفقًا مظلمًا ضيّعني مدة، وضيّع من قبلي وبعدي أجيالًا من الشباب في متاهاتٍ مخيفة، لم يستطع بعضُهم الخروجَ منها كلّ حياته، وبعضُهم استدرجه الافتتانُ بمقولات هذا الكتاب وأشباهه فانخرط بجماعات قاتلة.
في الشطرة مكتبةٌ صغيرة لبيع الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية، لا تعرض إلا قليلًا من الكتب للبيع. كثيرٌ من زملائي في الثانوية يهتمون بالكتب والمجلات، كأنها موضةُ شباب ذلك الزمن. في هذا الفضاء شاهدتُ مجلاتٍ لم أسمع بها من قبل، لا أزهد بأية ورقة مطبوعة، يدعوني فضولُ المعرفة لقراءة ما يقع بيدي، لا أتريث بإعلان رغبتي لزملائي باستعارة ما لديهم، ولو لبضعة ساعات. اكتشفتُ مجلات فنية كـ «الشبكة» و»الموعد» و»الصياد» وأشباهها، فلم يصطدني شيء منها. ما انجذبتُ يومًا لموضوعاتها أو أغوتني اهتماماتُها بحياة نجوم الفن وتقلبات حياتهم وأحوالهم الخاصة، أدركتُ مبكرًا أن حياةَ الفنان ككلِّ إنسان شأنٌ شخصي. يزعجني التلصّصُ على الحياة الخاصة لأيِّ إنسانٍ واقتحامُ شؤونه الشخصية، مع أن هذا السلوك يتفشى في علاقاتنا الاجتماعية بأساليب مؤذية أحيانًا. ما كان يعنيني الدورُ الفني الذي يقوم فيه اليوم أو غدًا أيُّ فنان أو فنانة، ذلك ما نأى بي بعيدًا عن أن أكون أحدَ مدمني قراءة الأسبوعيات الفنية، كما هي عادةُ أقراني ممن غرقوا فيها، وعجز أغلبُهم عن الخروج منها لاحقًا إلى عالم الكتاب المتعدد المتنوع الجميل. أفتّش عن الكتب لكن لا كلّ كتاب، أقع في فتنة بعضها، ولا أنجذب لبعضها الآخر، لا أعرف البواعثَ الخفية لقبول هذا الكتاب والإعراض عن كتابٍ غيره. لا أعرف من أين يأتي الصبر على قراءة كتبٍ لا أتفاعل معها. كنتُ أحيانا أقرأ كتابًا من أوله لآخره ولا أفهم أكثرَ مضمونه، والأغرب من ذلك أن بعضَ هذه الكتب، وهي قليلة جدًا، جربتُ العودةَ إلى مطالعتها في مراحل لاحقة من حياتي، فلم أتفاعل معها، فتنبهتُ إلى أن عدمَ التفاعل ينشأ من لغتِها الملتبسة، ومضامينِها المضطربة، وتشوشِ رؤية ومرامي كتابها. بالتدريج أضحتْ تتراكم لدي مبالغُ بسيطة تمكنني من شراء بعض المطبوعات. العدد الأول الذي اشتريتُه من مجلة «العربي» كتب افتتاحيتَه د. أحمد زكي في رثاء الزعيم جمال عبد الناصر، مازلتُ أحفظ بعضَ عباراته، والفقرات المرسومة بخط مميز، أتذكر منها مثلًا: «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر». أصبحتُ أحدَ المثابرين على متابعة العربي، أقرأ كلمةَ التحرير، والاستطلاعات، ومقالات كتّاب أترقب نصوصَهم، وأشهد بالفضل لهؤلاء الكتّاب عليّ وعلى جيلي من الشباب. مؤسِّس مجلة العربي يستحقّ التبجيل، وهكذا رؤساء التحرير الذين خلفوه، لحماية هذه المطبوعة من السقوط بفخّ التشدّد والانغلاق، في زمن تضامن أيديولوجيا الإخوان المصريين والسلفيين في الخليج والسعودية. ذلك الزمن الذي تسلطوا فيه على وزارات التربية والتعليم، وأسّسوا البنيةَ التحتية العميقة لها، عبر توجيه المقررات والمناهج في مدارس وجامعات معظم هذه الدول في سياق رؤيتهم المغلقة ومقولاتهم المتشدّدة، فسقطت المدارسُ بعد منتصف القرن الماضي في قبضتهم، وكان أغلبُ المعلمين والمدرسين دعاةً لمقولاتهم. في الوقت الذي يدين قراءُ مجلة العربي بالفضل لمؤسّسها، إلا أنه أغلقها لحظةَ انطلاقها واحتكرها لأقلامٍ اختارها بشروطه. لا أشكّك بمواهب وبراعة تلك الأقلام، إلا أن المحرّرَ أرسى تقليدًا في النشر ما زالت هذه المطبوعةُ مكبلةً فيه منذ تأسيسها قبل 65 سنة. مللتُ من الأبواب الثابتة المحتكرة لأقلام مصرية تتناوب على الكتابة بإيقاعٍ منتظم في أعداد العربي الشهرية المتوالية لعشرات السنين، قلّما يحضر كاتبٌ غيرهم، مهما كانت موهبتُه وإبداعُه الأدبي ومقامُه الفكري، كأن لا كاتبَ ولا أديبَ ولا مفكراً عربياً سواهم. وهذا تقليدٌ استبدَّ بصحف ومجلات بلدان أخرى في الخليج خاصة ذلك الزمان. مجلة العربي حتى اليوم أسيرة هذا التقليد الرتيب الذي بدأ بولادتها، فما زالت مغلقةً بنحوٍ يضجر القارئَ من الحضور المزمِن لكتابٍ لا تجذبه نغمةُ أصواتهم الأبدية المتشابهة. كتب الناقد السعودي الصديق حسين بافقيه عن هذا التقليد الراسخ على صفحته في 1-3-2023، قائلًا: «مِمَّا نَفَّرَني مِنْ مجلَّة (العربيّ) الكويتيَّة أنَّها تَحَوَّلَتْ إلى «دكاكين ثقافيَّة» مختلفة الأحجام؛ فهايبر ماركت لـ أحمد أبو زيد [مصريّ]، وسوبر ماركت لـ جابر عصفور [مصريّ]، وميني ماركت لـ محمَّد مستجاب الكبير [مصريّ]، فلمَّا مات خَلَفَه في الدُّكَّان مستجاب الصَّغير [مصريّ] = ودُكَّان بثلاث واجهات لـ فاروق شوشة [مصريّ]، وبواجهتين لـ قاسم عبده قاسم [مصريّ]، وبَسْطة لـ مصطفى الجوزو [لبنانيّ]! ومِنَ جنسيَّات الكُتَّاب نَعْرِفُ مَن يسيطِر على المجلَّة التي كان واجِبًا أنْ تُسَمَّى «المصريّ»
لا «العربيّ»!