الموهبة أم الدراسة؟

ثقافة 2023/06/14
...

سامر المشعل

عندما نسمع بفنان فطري، يتبادر إلى ذهن الكثير أن هذا الفنان يفتقر إلى العلم والمعرفة، ويتسم بالأمية والجهل، على العكس من الفنان الأكاديمي، الذي تعلم الفن على مقاعد الدراسة بالمعاهد والكليات الفنية.
هذا الفهم من الأخطاء الشائعة، التي علقت بمخيلة الكثير من أفراد المجتمع، فعلى سبيل المثال الفنان الريفي داخل حسن، الذي يطلق عليه لقب فنان فطري. هل هو بلا ثقافة موسيقية ويفتقر إلى المعرفة بأصول الغناء؟
وهو الذي اخترق بصوته وإحساسه وترجيفاته عموم المجتمع العراقي، وتعدى ذلك إلى العالم العربي، بل أثّر غناؤه بموسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب، الامر الذي جعله يصوغ على غرار أغنية " يمه يايمه " قصيدة "جبل التوباد"!. وهنا لا بد أن نتساءل كيف استطاع داخل حسن أن يحظى بهذا التأثير، وكيف استطاع أن يكون له اسلوب خاص بالغناء لا يشبه الآخرين، ويأسر بفنه جميع الدارسين والاكاديميين؟!.
أقول عندما يكون الحب هو الدافع لولوج عالم الفن ويلامس هذا الحب الموهبة، التي تسكن أعماق هذا الفنان تأتي المعرفة والتعلم برغبة ذاتية وحاجة ماسة لاستكمال مقومات الشخصية الفنية، على العكس من الدراسة الأكاديمية في المعهد التي تفرض على الطالب.
وإذا أخذنا الفنان داخل حسن أنموذجا، فإنه مارس في طفولته مهنة رعي الأبقار، فكان يلتقط كل ما يسمعه من غناء، ويطلق العنان لروحه بالتعبير عن خلجاته، وعندما أصبح عمره اثني عشر عاما، أخذ يذهب برفقة أخيه الاكبر إلى القرية المجاورة "قرية السادة العبد"، التي كانت تعج بالغناء ليل نهار، وراح يلازم مطربه المفضل محبوب العبد.. يتعلم منه ومن الآخرين أصول الغناء، ويستمع إلى ألوان الغناء الريفي. اذ كانت تقام جلسات غناء تشترك فيها مجموعة من المغنين يتباورن في ما بينهم. ومثلما يقول المثل "المجالس مدارس"، فالفنان داخل حسن كان يتعلم اصول الغناء ويحفظ، حتى تكونت لديه الخبرة والمعرفة بالطرق الغنائية والأدائية وألوان الأطوار الريفية.. ومن ثمّ شقَّ له أسلوبه الخاص بالغناء.
داخل حسن له مصادره المعرفية التي نهل منها ولم يكن جاهلا بأصول الغناء، والكلام نفسه ينطبق على الفنانين، حضيري ابو عزيز وناصر حكيم وخضير حسن مفطورة ومسعود العمارتلي وجبار ونيسة ونسيم عودة وخزعل مهدي ورضا علي وحسين سعيدة.. وغيرهم، فهؤلاء جميعهم لم يدخلوا أكاديمية فنية، لكنهم كونوا شخصيات مؤثرة بالذائقة الغنائية وخارطة الفن العراقي.
وهناك فنانون درسوا بمجال بعيدٍ عن الفن، لكن الموهبة والحب قادتهما لأن يقتحموا عالم الفن مثل الملحن طالب القره غولي، الذي كان معلما في الناصرية، ولم يدخل معهد فنون أو يدرس الموسيقى، لكنه كان من أكثر الملحنين إبداعا وحداثة في تاريخ العراق، وتبوأ منصب رئيس قسم الموسيقى بالاذاعة لسنوات طويلة.
ايضا الملحن العبقري بليغ حمدي درس الحقوق، ثم اتجه لدراسة الموسيقى في معهد فؤاد الأول للموسيقى بالقاهرة، بسبب ولعه بالموسيقى والغناء، كذلك الموسيقار سالم عبد الكريم درس الرياضيات بجامعة بغداد، لكن عشقه للموسيقى جعله يدرس الموسيقى ويبرع فيها.
هذا الكلام لا يقلل من قيمة وأهمية الدراسة الاكاديمية، لكن عندما يأتي الحب والموهبة في المقدمة وتصقل في ما بعد بالدراسة، تتكامل الشخصية وتعطي ثمارها الناضجة والشهية.