الطيّار

ثقافة 2023/06/17
...

 حاتم حسين

يفترض بي الآن أن أطير، وأحوم في سماء بلدي، وأحمي حدودي، فأنا (كابتن) تخرج تواً، وتدرّب في أكبر أكاديمية جوية، وعراقية. وصفوه زملاؤه بالطائرِ الصقر الذي يتقلب في كبد السماء من دون وجلٍ أو خوف.. وها هي علامة الصقر يفرش جناحيه على كتفي كملازم عسكري طيار، يخضع لاختبارات الساعات الأخيرة من التدريب، والامتحان الشفوي أمام اللجنة الأخيرة التي تدرس خيارات قبوله أو إعفائه، والتي سوف يخضع للدرجة النهائية التي تسمح له بارتياد وقيادة الطائرة بلا مدرب معتمدا على نفسه، كان الزملاء أمام اللجنة المشكلة من طيارين عراقيين، وخبراء أمريكان ينادون على الأسماء التي ستطير في الجو، وتخضع للتقييم، فكان الهاجس عند أغلب الطيارين يكمن في النجاح بعملية الهبوط الملامس للمدرج من دون أيِّ ارتطامٍ يؤثر على متانة الطائرة، وإصابتها.

أما الإقلاع فكان لا يشكّل عائقا أو خوفا عند أغلب الطيارين المتدربين. وهم يتفنون في المناورات الفنية مثل دوران الطائرة السريع، والسحب لكلِّ الاتجاهات، وبالعمق وبالعكس باتجاه الأرض التي هي من الأمور التي تحتاج إلى تدريب، وسيطرة، قاد الطائرة وراح يسبح في الفضاء حتى أنّه طار أكثر من الوقت المقرر له. فقد خامره إحساس، وهو في الجو. بأنّ الجنرال الأمريكي يكبت في قلبه سخطا، وأمرا غامضا يتوجّس منه، كلّما لاح له وجه الجنرال وفكّر به. وفريق اللجنة يراقب حلم الطيار الذي تميّز عن أقرانه بفنون الطيران، وها هو اليوم يؤدي بطائرته حركات بهلوانية (أكروباتية) كالإقلاع العمودي، وبعض المناورات التي لا يجيدها إلّا طيارٌ مقاتلٌ شرس، خاض الحروب، وتمرّس فيها، كالدوران ووقوف الطائرة العمودي، ودورانها حول نفسها عدّة مرات من دون أن يصاب بالدوار حتّى حطّ أخيرا رحاله على المدرج، ووقف أمام اللجنة المشتركة التي يترأسها كابتنُ، وجنرال أمريكي وخبير نفسي يُخضع كلَّ منتسبٍ لأسئلة يمكنه من خلالها منحه الإجازة في قيادة طائرة أمريكية عملاقه F16. كانت اللجنة قد وضعت تقييما جيدا لهذا الكابتن الذي وضعه الجنرال الامريكي أمام أسئلته المحرجة التي توالت عليه حين نظر في عينية كصياد مفترس يتنبأ بمستقبل مثل هذا النموذج الشجاع، وقال: أجبني يا كابتن ماذا تفعل لو كنت في الجو حرا طليقا ومعك أخطر أنواع الأسلحة الفتّاكة مثل الأسلحة التي انهالت على هورشيما. وبإمكانك أن تصل الى آخر حدود الدنيا... ماذا ستفعل؟ لم يكن السؤال مفاجئاً له فقد صدّق حدسه بأنّ الجنرال يريد أن يمحّصه بأسئلته العضوية والنفسية ممَا جعله يفكر، كيف يردّ على هذا الجنرال!! الذي وضعه وجهاً لوجه في قفص الإتهام كي يدافع عن قومه ونفسه!! خاطب نفسه ماذا تريدني أن أرد عليك أيّها الجنرال الخسيس المحتل، رفع رأسه برباطة الجاش واللجنة المشكلة قطعت أنفاسها لهذا السؤال الغريب الذي لم يسأله أحد من قبل لطالب سيتخرّج قريباً، يريد أن يلتحق بأسراب المقاتلين ليحمي سماءَ بلادِه. حاول أن يتجنب الاجابة. 

لكن الأميركي لم يتوانَ عن تكرار سؤاله بخبث ودهاء مخفيّ وهو يتفحصه، ليرى، ويسمع أجابته. لكن هارمون الرجولة أيضا أبى أن يقمع داخل نفسه، فتورّد وجه الطالب باحمرار خفيف، وهو يتذكّر كتب التاريخ كيف إنّ البريطانيين اختبروا الزعيم عبد الكريم قاسم عند تخرجه بأن يضع خطةً كمشروع تخرجٍ لاحتلال بغداد. لكنّه وضع بدلا عنها خطة لاحتلال لندن، فكانت صاعقة للجنة التي طلبت ذلك منه، وقال كيف تريدونني أن أخون بلدي ...!! وأضع لكم خطة. تنهّد وهو يتذكر هذه الواقعة الأليمة.  رفع رأسه، وقال بإصرار وتحدٍ: - سأقصف واشنطن. ارتسم الغضب على وجه الجنرال، وكذلك على وجوه أعضاء اللجنة المشكلة للنظر بقبول المتخرّجين.. فهذا آخر اختبار يمنح فيه المنتسب شهادة طيار عسكري. حاول الجنرال التظاهر، وإخفاء ارتباكه، وتمرير اللطمة التي صفعت وجهه. فسأله ببرود أكثر.

لما تريد قصف واشنطن؟

فأجاب على الفور - واشنطن احتلت بلدي.

- هزّ الجنرال رأسه.. وقال (أوك) ومن تريد أيضا أن تقصف لو كنت حراً طليقا في الجو؟ أخذ الطيار الشاب نفسا عميقا، وهو الذي جال بفكره، وقرأ كتب التاريخ. وكيف أن هؤلاء المحتلين دمرّوا بلاده، وبلدان الأمة العربية.. وقال بتحدٍ وإصرار سأقصف بريطانيا العظمى.

- ولِمَ بريطانيا العظمى؟ تسمّرت وجوه أعضاء اللجنة بدهشة غير متوقعة لأجوبة هذا الطيار الشاب الذي سيحصل توا على شهادة التخرج من أفضل أكاديمية في الشرق الاوسط حتى قال مؤكدا إنّ بريطانيا ايضا أحتلت بلدي عام 1914، وكانت اللجنة تحاول إيصال إشارة للكابتن بأن يسكت ويلتزم الصمت. لكن هيهات أن يجد الصمت أذنا أمام احساسه بالذّل والمهانة من هذا الجنرال الذي يشعر أنّه في مركز السيطرة على العالم، وإن الرفض والقبول بإشارة منه. رمى الجنرال القلم من يده، وخطّ بعصبية على إضبارة الطيار الشاب، بأنّه مريضٌ نفسي، وأردف بأنّه خطيرٌ، ولا يصلح أن يقود سيارة على الأرض.

فكيف به إن تمكّن من قيادة الطائرة!! وهو حرٌ طليق. بُهِتَ جميع أعضاء اللجنة من قرار الجنرال الامريكي الذي أفشل توا مشروعَ نجاحِ الطالب، وحال من دون حصوله على المرسوم الجمهوري للالتحاق بسرب الطائرات. استشعر جميع أعضاء اللجنة العراقيين بالرضا من أجوبة التلميذ الطيار، وتنفّسوا الصعداء كمن يبارك بعضهم البعض. اكفهرّ وجه الجنرال، وهو يطالع وجوه أعضاء اللجنة التي بدت عليها القبول والرضا والارتياح من شهامة الشاب. مما جعل الجنرال يخرج سريعا، يجرّ وراءه غطرسته. فيما رفع الطيار رأسه محدَقا ومتأملا في السماء، وشعر بعدم قدرته على الطيران ثانية.