عزيزي بروميثيوس: احترم نفسك

ثقافة 2023/06/17
...

 صالح رحيم 


من هذه اللحظة، فصاعداً، علينا أن ندمر الشعرَ، أن نقتله تماماً، بكتابة شعرية، لا تروم سوى الانتحار، بكتابة تشبه آخر صيحات النفس المحتضرة. كانت آخر صورة لاحتضار من أحب، فيها تهكمٌ من الحياة بكل أشكالها، من تلك الصورةِ، من ذلك المشهد المأساوي، أستمدُّ شكلاً جديداً من أشكالِ الشعر، يراهن على الخواء بوصفه مادةً لكتابة قصيدة ممتلئة. شكلاً لا يعوّل حتى على نفسه، يذهب مع الصرخة إلى تخومها، وينقش على وجه العالم وشمَ ضعفه وهشاشته. 

ليست مهمةُ الشاعر تطبيب خواطر الناس، ولا تطمينهم، وقد تكون مهمة إثارة فزعهم، وتهديم جدران النمطية التي تلفُّ أرواحهم، صدىً لمسعاه الحقيقي، فإنه يظلُّ كائناً خرافياً، لا يتغيا في ما يكتب أي غاية، ولا يروم من رؤيةِ المطلقِ سوى المطلق.  ولأنه أقدَرَ القادرينَ على المغامرة، فإنَّ الآثار التي تترتب على ما يشير إليه، هي آثارٌ تالية، لم تكن على أساس خطة أو هدف ينشده قبل ذلك ولا بعده. ثمة شبكة خفية من الأسباب، تتكفل بالترتيبات، وهذه الأخيرة، لا تعني الشاعر إطلاقاً، لأنه واقعاً لا يعرف الكيفية التي تجري بها. 

ولأنَّ الشاعرَ مخلوقٌ حالم، يستمد وجوده من مادة حلمية صرف، ويتطلع إلى حلم خالص، فإنه يمارس دوراً ثورياً سواء أراد ذلك أم لم يرده. وتكمن الوظيفة الثورية في مدى قدرة قصيدته على التثوير، تثوير القارئ، تثوير اللغة، تثوير الأشياء، تثوير العالم كله. والقصيدة الثائرة بحق، هي تلك النزيهة من الثورة، البريئة من كل غرض، القائمة على الجمال وحده ولأجله وفيه.  في محاضراته عن الأيديولوجيا واليوتوبيا، يعترف ريكور، بألا غنى عن هاتين الدائرتين في تكوين المتخيل الاجتماعي، فالأولى تظل جامدة، ساكنة، بقدر سكون الثانية. وعليه، أرى أن الدافع اليوتوبي، الذي ينزع بالشاعر إلى أقصى الحلم، هو ما يرغم دائرة الأيديولوجيا على الاستجابة والحركة، ومن ثم تنعكس الحركة على المتخيل الاجتماعي، فيتقدم، أو يحصل على التغيير. ومن وجهة نظري، إنَّ هذا الأمرَ ينسحب على الفنِّ برمته، وليس الشعر فحسب. 

إذ إنَّ المتخيل الاجتماعي، أو الهوية الجماعية، تنحطُّ، وتتسافلُ، بقدر خيانة الشعراء والفنانين، فالفنانُ الخائنُ هو ثمرةُ شجرة الأيديولوجيا، تغذى على تربة زائفة، غير نزيهة، ترابها الاخلاص للتراث والمحافظة عليه، وماؤها اللغة التي ينتهك روحها بالخيانة، وهو بالنهاية ليس فناناً، بل موظفٌ في الدائرة، إنه عميلٌ، ولا بدَّ أن مآله، يذهب مع الصرخة إلى تخومها ويتلاشى تماماً.