عبد الكريم قادري
أظهر العديد من المخرجين التونسيين، خاصة في السنوات الأخيرة، شجاعة قلّ نظيرها في السينما العربية، وهذا من خلال "سينما النوع"، أي الخروج من الأنماط السينمائية السائدة، والذهاب صوب التغيير والتجديد وتعدى ما هو مكرس، بالتالي شرعوا في تغيير ذهنية الجمهور، الذي تعود على نوع واحد، منقسم بين الدراما والكوميديا في الأغلب، بالأخص من خلال تلقيه السينما التونسية أو العربية، اما سينما النوع، فيتلقاها عادة من سينما العالم، خاصة من هوليوود، التي تضمن له الخيال العلمي والفانتازيا والرعب وغيرها من الأجناس الأخرى، وكل واحد تتفرع منه تركيبات أخرى، لكن السينما التونسية، بدأت تقدم أفلامًا خارج المتوقع، مثل السينما الغرائبية، وهذا ما حدث مع فيلم "فرططو الذهب" (2021) لعبد الحميد بوشناق، الذي قدّم قصته بغرائبية، من خلال رجل شرطة ذي ماضٍ دموي، يلتقي بصبي غريب الأطوار، يعاني من حالة مرضية قد تفقده بصره قريبًا، فيقرر الضابط اصطحابه في رحلة لرؤية الكثير من الأشياء قبل تدهور حالة الصبي، وهي أشياء غير واقعية وغير ملتصقة بمنطق الأحداث العادية، وهذا ما فعله المخرج الجيلالي السعيدي في فيلمه "عصيان" (2021) الذي تدور أحداثه خلال ليلة واحدة، حيث يختار مجموعة من الأشخاص العصيان والتظاهر في انتفاضة جنونية في العاصمة وضواحيها، وتصبح الشوارع ساحة للمواجهة بين المتظاهرين والسلطات، وقد تمَّ تقديم هذه الاحداث وفقا لسياق خيالي، عن طريق التنقل عبر الزمن، أو ظهور مخلوقات غريبة وأفعال غير واقعية.
أما المخرج يوسف الشابي، فقد كان أكثر تحفظا وأقل حدة في فيلمه "أشكال" ( 2022)، لكنه قدّم قصة غرائبية وإن غلّفها بالدراما والغموض، لكنها كانت غارقة في الرمزيات، التي تحيل على الظلم والجور والسلطة الفاسدة والقهر، الذي يتعرض له المواطن التونسي في كل شبر من التراب التونسي وفي كل زاوية، وقد اختار فضاء مفتوحا بضاحية العاصمة التونسية، هو رمز للسلطة السابقة، وواجهة لها ولمشاريعها العمرانية المستقبلية، للبعد عن العامة، خاصة فقط لأركان الدولة، من السياسيين والأمنيين ورجال المال والمنتفعين والفاسدين، وغيرها من أصحاب السلطة والمال والنفوذ، لكن هذا المشروع لم يكتمل، وبقيَّ عبارة عن ورشات بناء كبيرة مفتوحة، تعمرها مجموعة من الأفراد والعاملين الذين يعملون ويقيمون فيها، خاصة ممن يقطنون خارج العاصمة، لكن هذا السكون والهدوء يتغيران، بمجرد ظهور جثث متفحمة من حين لآخر، لأسباب تبقى مجهولة وغير معلومة بالنسبة للشرطة، من هنا تتدخل الأخيرة وتبدأ في التحقيق، عن طريق ضابطيها، فاطمة (فاطمة وصايفي) وبطل (محمد قريع)، من أجل كشف ملابسات هذه الجرائم/ الأحداث، خاصة أنها مغلفة بأشياء روحانية يصعب للعقل العادي تصديقها، من هنا وجب التحرك في جميع الاتجاهات لكشف خيوطها ووضع القادة الأميين في الصورة الشاملة.
استطاع المخرج يوسف الشابي، في أولى تجاربه السينمائية في الفيلم الطويل، أن يقدّم عملا مؤسسا على كتلة من الرمزيات، ذات الإحالات المتعددة والقراءات المختلفة، وبالتالي تعدى الزمن الدرامي في الفيلم (92 دقيقة) إلى الزمن المفتوح، الذي يتسع ويضيق وفقا لكل متلقٍ وانطلاقا من ثقافة كل جمهور، وقد انعكست هذه المعطيات بشكل واضح في رمزية النار، التي أحرقت كل من وصلته بعض المؤشرات الروحية، وهي مستعدة أن تحرق المدينة وتحرق تونس بأكملها، إن تواصلت معطيات الظلم والقهر، حتى أن الفضاء الذي اختاره يوسف الشابي، الذي تعكسه البناءات غير المكتملة، تغزوها الفراغات والحشائش والركام والأتربة، وكلها إحالات واضحة على تونس ما بعد الثورة أو ما قبلها، ولتثبيت هذا المنحنى الجمالي والرمزي، يذهب المخرج من خلال أحد مشاهده إلى صورة حية، أظهرتها إحدى المحاكمات لرموز النظام السابق، الذي أوصل تونس إلى ما هي عليه اليوم، لكنه يسخر منها في بعض المشاهد الأخرى، وكأنه يقول بأن الحال لا يزال
كما هو.
تركيز المخرج الذي تعاون في كتابة السيناريو مع "فرانسوا ميشيل أليجريني" على الموضوع وقوة الرمز فيه، لم يمنعه من العمل على الجماليات الأخرى، ومن بينها الجماليات البصرية، التي استطاع أن يضبطها ويؤسس لها بحرفية كبيرة مدير التصوير حازم برابح، الذي عرف كيف يخرج الجمال من القبح، عن طريق مشاهد نابضة ومفعمة بالسحر، خاصة تلك التي ضبطها في ورشات البناء، داخلها وخارجها، وفي أوقات زمنية مختلفة، وكأنه أحسّ بكل جزئية فيها، لهذا عكس مشاعر شخصيات القصة داخلها، ومن ذكاء المخرج أنه وضع فضاء الفيلم في تماس واضح بينه وبين المشاهد، لهذا نقل أو استعرض، في افتتاحية الفيلم، "كادرات" مختلفة عن الوضع العام لورشة البناء، إضافة لتقديمه لمعلومات شاملة عن الوضع العام في تونس والثورة وبداية الأشغال وتوقفها في هذا الحي السكني، ليتحول المكان إلى بطل رئيس في العمل.
فيلم "أشكال"، الذي تعاونت في انتاجه كل من تونس وفرنسا وقطر، كاد يكون فيلما جيدا، غير أن ضعف السيناريو حال دون ذلك، اذ كان بحاجة ماسة إلى العديد من القصص الثانوية، حتى تؤازر وتدعم القصة الرئيسة، وبالتالي تزيح الرتابة التي عرفتها اجزاء كثيرة من الفيلم، حيث أعطانا الإحساس بالحشو والتمطيط، وكان الفيلم مشروع فيلم قصير، لكنه تحول فجأة إلى فيلم روائي طويل، لكن على العموم نجح الفيلم في خوض مغامرة التجديد التي دخلها.