الكتابة بوصفها سلطة
د. عبد الجبار الرفاعي
ظهر التدوين مبكراً، وابتكر الانسان طرائق متنوعة لتدوين كتاباته، مذ كان يرسم صورة أفكاره ومعتقداته وأحلامه وأساطيره على جدران الكهوف، ثم انتقل للكتابة على الحجر، وألواح الطين، والبردي، والعظام، والجلود، إلى أن اخترع الورق. ظلت الكتابة على الدوام أثرى مستودع أودع فيه الانسان منجزاته وإبداعاته، وأوسعَ خزان يستوعب أحلام الإنسان وأفكاره وأساطيره ومتخيَّله، وسجلا يحتفظ بأوجاعه، ومدونة لأرشفة مواقفه. جرى توظيف الكتابة في مختلف العصور بوصفها سلطة تمنح مشروعية باسم السماء للحاكم، يستعملها في ترويض المحكومين على الطاعة وقهرهم وإخضاعهم.
في حضارة وادي الرافدين ما هو مكتشف أكثر من مليون لوح ورقيم كتابي قبل أكثر من نصف قرن(1) ، غير أن ما له قيمة نوعية، وما استطاع أن يخترقَ العصور التاريخيَّة، نصوصٌ نادرة من ذلك الموروث الهائل. ملحمةُ جلجامش، شريعةُ أور نمو، شريعةُ حمورابي، الرياضياتُ البابلية، وشيءٌ من المدونات القليلة جدًا هي الخالدة، وهذا هو الحال في ميراث حضارات أخرى متأخرة عنها. كانت الشرائعُ في حضارات بلاد الرافدين تستمدّ مشروعيتَها ومصدرَ الإلزام فيها من تدوينها باسم الآلهة، ففي مسلة حمورابي، المدونة نحو 1772 ق. م يظهر الملك حمورابي وهو يقف أمام إله الشمس «إله العدالة»، يتلقى منه القوانين.
وسبقت حمورابي شرائعُ سومريَّة كثيرة، فقد «كانت أقدم مدونة قانونية في التاريخ شريعة أوروكاجينا في القرن 24 ق. م. والثانية من حيث العراقة شريعة أورنمو (2047- 2030 ق. م) [أو 2112- 2095 ق. م] الذي أسس - في سومر- سلالة أور الثالثة، وربما يكون ابن أور نمو وخليفته شولكي (2029-1982 ق. م) [أو 2094- 2047 ق. م] هو الذي أصدر القانون المنسوب إلى أبيه، فإنَّ كان الأمر كذلك فالمرجح أنه أصدر القانون اعتمادًا على قانون أبيه أو امتثالًا لنصائحه» (2). لم أقرأ عن شريعة قديمة، في حضارات سومر وبابل وآشور، لا تستمدّ شرعيتَها من الآلهة المعروفة في تلك الحضارات. ذلك أحد أهم أسباب الاهتمام بتلك الشرائع والحرص على كتابتها بعناية فائقة، وتعدد نسخها وتوارثها عبر الأجيال.
ويعود صمودُ هذه المدونات القانونية وغيرها من النصوص الأدبية مثل ملحمة جلجامش، أمام عوامل التعرية التاريخية، مضافًا إلى ما سبق، إلى قيمتها الفنية الإبداعية،ومضمونها الوظيفي،ورصيدها الاجتماعي،ووظيفتها الأساسية بوصفها سلطة، وكونها أداةً لتمكين السلطات السياسية والعسكرية والدينية من الحكم.
السلطة تكتب مدونتَها على وفق طريقتها في التسلّط، وما ترسمه من حدود للهيمنة على حياة ومصائر المحكومين، ومن خلال هذه المدوّنة تستمدّ شرعيتَها وانصياع الشعب لها، وتنتسب هذه الشرعيةُ في الحكومات الثيوقراطية عبر التاريخ دائمًا إلى السماء. فئة الكتّاب تكتسب مكانةً إضافية بعملها في الكتابة تتفوق بها على غيرها من فئات المجتمع.
صارت مهنةُ الكتابة تتجاوز كونَها حرفةً فنيَّة إلى إضفاء هالة على الكاتب، وسلطةً تمنحها له ممارسةُ هذه الحرفة. يرى الأنثروبولوجي الشهير كلود ليفي شتراوس في رحلته مع قبائل النامبيكوارا، بأن الكتابة «ظهرت، لكن ليس كما قد يتبادر الى الذهن، نتيجة لتعلمٍ جاد، فقد تمت استعارة رمزها، بينما ظلت حقيقتها غريبة، لغاية اجتماعية أكثر منها فكرية.
لم يكن المقصود هو المعرفة والحفظ والفهم، بل زيادة الهيبة والسلطة، لفردٍ، أو وظيفة على حساب الغير» (3)، ويضيف أيضاً: «وبهذا اكتشف أحد أهالي العصر الحجري، أن وسيلة الفهم العظمى، حتى إذا لم تُفهم، يمكن لها أن تستخدم لغايات أخرى. وعلى كل فطوال آلاف السنين، وحتى الآن(4)في جزء كبير من العالم، وجِدت الكتابة كمؤسسة في مجتمعات لا يستطيع أفرادها في أغلبيتهم ممارستها»(5).
المنطق العصي على التغيير للكتابة، يشدّد على محو كتابات البشر الرديئة كافة بمرور الزمان، إذ سرعان ما تختفي، مهما واكبها من إملاءات السلطة وقهرها، ومهما صاحبها من دعاية، وإنفاق رؤوس أموال لترويجها، ومساعي جماعات لإشهارها، وما تعمله من تهريج وضوضاء. شهدت الكتابةُ منعطفات تحولت فيها من حالة إلى أخرى، كان تحولُ الكتابة الأول من الصورة إلى الحرف، بعد اكتشافه انتشر الحرفُ جغرافيًا وامتدّ زمانيًا، ولبث الحرفُ المسماري، الذي ظهر نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، أكثر من ثلاثة آلاف سنة أداةً للكتابة في حضارات بلاد الرافدين، وإيران، والشام.
وفي حقبة تالية كُتبت اللغةُ المصرية القديمة بالخطوط: الهيروغليفية، والهيراطيقية، والديموطيقية، والقبطية. واستخدمت الأبجديةُ الفينيقية (الكنعانية) الحرفَ الفينيقي منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى القرن الخامس قبل الميلاد. التحول الثاني في مسار الكتابة تمثّل في اختراع الصينيين للورق في القرن الميلادي الأول، فانتشر الورق لاحقًا وكثرت مصانعه في مختلف أنحاء العالم. الورقُ أحدث منعطفًا كبيرًا في سهولة الكتابة وتيسيرها، واتساع استعمالها خارج إطار النخبة المختصة بذلك. اختراعُ الإنترنت وحضورُه في كلّ شيء في حياة الإنسان يمثل التحولَ الثالث الأسرع والأشد ايقاعًا والأعمق للكتابة، إنه تحولٌ كيفي استثنائي مهول، أحدث انقلابًا في وظيفة الكتابة، وأساليبها، ومضمونها، وكيفية تلقيها، وتفشيها وعبورها للاختصاص والانحصار بالكتّاب، واتساع استعمالها كسلطة. كلُّ إنسان بوسعه أن يصبح كاتبًا، ينشر ما يكتب مهما كانت لغتُه وبيانُه ومضمونُ كلماته. في كلِّ العصور جرى استعمال الكتابة بوصفها سلطة، في عصر الإنترنت تجاوزت سلطةُ الكتابة حدودَها المعروفة، وأمست متاحةً للجميع، يستعملها مَن يشاء كما يشاء.
شلال الكتابة الهادر في الإنترنت، لا يترك للإنسان فرصةً للتفكير والتأمل، والتريث في تمييز وفرز ما تتوفر فيه شروطُ الكتابة الحقيقية، وما هو هذر رث يأكل عمرَ الإنسان ويستنزف طاقاتِه لو انشغل بمتابعته والنظر فيه. عندما أعود للنشر في صفحات تطبيقات وسائل التواصل أشعر بقرف واشمئزاز من هجوم كتاباتٍ لا ينطبق عليها أيُّ مصداقٍ للكتابة، تنشغل بملاحقة الناس وانتهاك خصوصياتهم، وكيل التهم لهم، واستهدافهم بالأكاذيب. كلّما أردت الفرارَ منها وانتقاءَ النصوص النافعة أراها تلاحقني حيثما أنظر، لا أكاد أعثر على ما أبحث عنه إلا بتضييع وقتٍ كثير أنا بأمسّ الحاجة إليه.
الهوامش:
1 - مالم يُكتشف في المواقع الأثرية غير المنقبة أضعاف ذلك بكثير كما يخبرنا الآثاريون، إذ يشير هؤلاء الخبراء إلى وجود أكثر من 12 ألف موقع أثري، أكثرها مازالت خارج عمليات التنقيب، ولم تستكمل تلك العمليات في المواقع المشهورة منها.
2 - Joshua J. Mark، عشر حقائق مهمة عن العراق القديم، ترجمة: الحسين الطاهر، مقالة منشورة على الانترنت.
3 - مداريات حزينة، كلود ليفي شتراوس، ترجمة: محمد صبح، تقديم: د. فيصل دراج، دار كنعان - دمشق، ط1: 2003/2000.
4 - من الجدير بالذكر أن كتاب ليفي شتراوس: مدارات حزينة، ظهر عام 1955، وهو يتحدث عن رحلاته ما بين عام 1934 - 1939.
5 - مداريات حزينة، كلود ليفي شتراوس، ترجمة: محمد صبح، تقديم: د. فيصل دراج، دار كنعان - دمشق، ط1: 2003/2000.