نبوءة سقراط بين الحقيقة وخيانة الترجمة

ثقافة 2023/06/21
...

 مؤيد أعاجيبي


كل مجتمع في أي فترة من فترات التاريخ يحتاج إلى الشعور الديني بغية الكشف عن نمط عام لوجوده، وهذا يدحض فكرة النبوءة وتخصيصها لحضارة محددة من دون غيرها. وعلى الرغم من أن الحضارات البدائية لم تكن تعرف النبوءة بشكل فعلي إلا بعد أن تعذَّر عليها التواصل الشخصي مع الآلهة، لذا قامت هذه المجتمعات بمحاولة التعرف على المستقبل من خلال النبوءات التي يتلقاها فرد من الجماعة، والذين يعتقدون أنه تأثر بلمسة الآلهة وصوتها. وهكذا نشأت النبوءات البدائية، والتي تُعد جزءاً من أسطورة النبوءة، حيث تمثل محاولة الإنسان لملاحقة الإله الذي تركه وحيداً وصعد إلى السماء. ونظراً لأنَّ الإنسان لم يكن قادراً على مواجهة العالم بمفرده، أصبحت هذه النبوءات ذات أهمية كبيرة، بل بعض القبائل البدائية جعلت اكتساب النبوءة من الآلهة شرطاً لانتماء الفرد إلى القبيلة. على سبيل المثال، لم تسمح قبائل الهنود الحمر بانتساب الصبي إليها إلا بعد أن يخضع لطقوس أوليَّة تتضمن السعي للرؤية والنبوءة، حيث كان على الصبي، بين سنوات التاسعة والعاشرة من عمره، أن يعيش في الغابة بمفرده لفترة محدودة من الزمن من دون ماء أو طعام حتى يتلقى الرؤية. 

وكان مجتمع اليونان واحدا من تلك المجتمعات التي عبّرت عن هذه الحاجة. كانوا يؤكدون أهمية احترام المعتقدات المتعلقة بتبجيل الآلهة، بالرغم من انخراطهم الكبير في الأسرار الدينيّة. ومع ذلك، إذا رجعنا إلى الأساطير، وخاصة قصائد هوميروس وهزيود، سنجد أن صورة الآلهة لم تكن على مستوى الإلوهية ولا تليق بها. يعود ذلك إلى أن هذه القصائد تعكس مشاعر بعض الناس الذين يستمتعون بسهولة الحياة ويرغبون في الاستمتاع بها، ويرغبون في أن تكون الآلهة بتلك الصورة. في هذه القصائد، لم يكن الإله، ولا سيما في قصائد هوميروس، هو الكائن الذي خلق الكون أو يهتم به أو يتجاوز قدرة وقوة القوانين الطبيعيّة. إنّ الكون لم يكن خلقاً من قبل الآلهة، بل خضع لقوانين الطبيعة الحتميّة. هذه القوانين التي لا يمكن لأيِّ إله أو إنسان أن يتجنبها، فهي تسيطر وتتحكم في كل ما يحدث في الكون. لذا، لا يمكن للآلهة أن تتحكم في تلك القوانين العامة، بل يجب أن تهابها. وفضلا عن ذلك، لا يستطيعون أن يديروا سوى بعض جوانب الحياة البشريّة، وليس لديهم سلطة أو قدرة مركزيّة تفوق قدرة تلك القوانين العامة غير المحددة.

لذا أنا متيقن تماماً بأن العقل البشري، الذي هو مصدر التكليف، له الحق في استكشاف كل شيء، لذا أجد في نفسي أن أطرح هذا السؤال: هل كان سقراط نبيّاً؟. من خلال الحوارات السقراطية، نلاحظ تأكيدات متكررة من سقراط بأنه يتلقى إلهاماً يوجِّهه ويأمره بالقيام بأشياء وعدم القيام بأشياء أخرى. وقد أوضحت هذه الروح لسقراط أن الموت هو نعمة وليس مصيبة، ففي محاورة فيدون نجد تقبّل سقراط للموت والترحيب به وعدم الخوف منه وهو بسبب الوحي الداخلي الذي كان يكلمه ويملي عليه ما يقول في المحكمة، وهذا ما تذكره ترجمة شوقي تمراز للمحاورات السقراطية. فسقراط كان يقول: “ألن تسلّما بأنني أمتلك النفس النبويّة بقدر ما لدى الإوزات... أعتقد أنا نفسي أن أكون الخادم المكرس لله ذاته... والمؤمن بأني تلقيت هبات النبوّة من سيدي ومعلمي”. ففي ترجمة عزت قرني عن اللغة اليونانية القديمة نجد شيئاً مختلفاً تماماً، وفيها يقول سقراط “والظاهر أنني أبدو أمامكم أقل قدرة على التنبؤ من البجع... أعتقد من جانبي أنني مكرس لنفس الإله، وأعتقد كذلك قدرتي على التنبؤ التي مصدرها سيدنا ليست أقل من قدرتها”. تُظهر ترجمة قرني للنص اختلافاً كبيراً في المعنى، حيث لا يذكر سقراط النبوة أو الروح النبوية، بل يتحدث عن النبوءة كقدرة على التنبؤ بالمستقبل، مماثلة لقدرة الطائر الإوز. ترجمة قرني الأدق بلا شك، لكونها مباشرة من النص اليوناني القديم، وتتوافق مع خطاب سقراط بشكل عام، والذي لا يشبه خطاب الأنبياء، إلا إذا افترضنا أنّه كان نبيّاً من رتبة مختلفة، وهذا أمر غير محتمل، ولا يستحق الاهتمام. في حين تُظهر ترجمة تمراز الكثير من المغامرات في اختيار المفردات بغرض البلاغة أكثر من الترجمة الحرفيّة!

ونحن نؤكد رأي قرني، كون الفلسفة اليونانيّة بمجملها فلسفة وثنيّة بامتياز، لم ينلها أي شيء من وحي السماء حتى تلجأ إليها. وبناءً على ذلك، نجد موقفها غير ثابت تجاه العقل، حيث تتأرجح بين اعتباره جزءاً من عالم الطبيعة أو المادة وعدم انفصاله عنها، وبين اعتباره مستقلاً عنها. وقد بدأ هذا التأرجح منذ بداية الفلسفة مع طاليس وأتباعه الذين ينتمون إلى المدرسة الواحدية، حيث اعتبروا العقل جزءاً من الطبيعة. ومن ناحية أخرى، مستقل عن الطبيعة كما عند أرسطو. ومن ثم، فإن نقد العقل في الفلسفة اليونانية في مقابل المادة، وليس في مقابل النقل. لأنّ العقل المادي يوجد داخله حيّز التجربة الماديّة، لأنّ العقل المادي محصور ضمن التجربة المادية، وهذا يعني بأنه محكوم بحدود هذه التجربة، فهو لا يمكن ان يهتدي إلا بقوانين المادة الكامنة، لأنّه لا يتجزأ منها، وهذا يعني انكار مقدرة العقل على التجاوز حتى يصل الى الكليات. وبهذا فهو غير قادر على اصدار الأحكام، ومن ثم تقتصر معرفته على الأشياء المادية فقط، بينما تعتبر الأخلاق والدين السماوي جزءاً من عالم يتجاوز حدود التجربة. والعقل اليوناني المادي ينكر هذا الجانب تماماً ويعود به إلى عالم المادة فقط.