الديوانيَّة .. زهرة الفرات وعطر الذكرى

ثقافة شعبية 2019/04/26
...

 زهير كاظم عبود
أيُّ سرٍّ يكمن في عشقنا للديوانيّة؟ الحنين الذي لم تغيّره سنين الاغتراب والقحط، والأيام المرة والمالحة التي لم تغيّر طعم حلاوتها، ولا رائحة تراب أزقتها الفقيرة، ولالون سواقي الماء الخارج من بيوتها والذي يشطر شوارعها الضيقة، ولا بيوتها الواهنة المتعبة المتكئة على بعضها، ولا حيطانها الملطخة ببقايا الشعارات السياسية، المحبة التي ما فترت تجيش في الروح لا يغيرها الزمن ولا تضعفها   الأيام.  كيف يمكن للذكريات التي ترسمها المخيلة عن المدينة الصغيرة والحلوة والفقيرة أن تترسّب في قيعان الروح فلا تغادرنا؟ 
 من منا ينسى البو جمعة كلهم دون استثناء ؟ او بيت السيد إبراهيم ابو عميمة ، أو عبد الجليل الريس أو نجاح عبد الجليل ومساهماتهم في نشر الوعي الثقافي والاجتماعي عن طريق الأفلام الراقية التي يتم عرضها في دور السينما التابعة لهم ؟ كيف يمكن أن ننسى عنتر ( جهاد عبادة ) أو حمزة السليت والعم طيب الذكر خنياب ؟ وكيف يمكن ان نستعيد جلوسا أنيقا في مقهى اللواء نجالس النخب التربوية والموظفين الكبار التي تخصصت لهم ، وننتقل الى مقهى عبد داهي والشبلاوي ومقهى الحاج إسماعيل ومقهى صنكر وعواد كران ومقهى عولة ومقهى اللواء ومقهى سعد ظاهر وكل المقاهي والأماكن الشعبية الأخرى . كيف نستعيد شخصية خليل سوادي الحلاق وعلي جاسم الحمد وجعفر التميمي ومسلم عبد وعبدالاله عبد الشهيد وكل شخصية رسمت الابتسامة والضحكة البريئة الصادقة من القلب تنقش تأريخها وأسمها في الذاكرة .
ونتحسر بأسى لأن المدينة بحاجة لأمثالهم . كيف يمكن أن ننسى اللافتات التي يرسمها الخطاط ملا علي أو التحف التي ينقشها بأنواع الخط العربي هاتف الخزاعي أو نعمة راضي وقبلهم الخطاط لازم الخزاعي ؟ لأسماء الأطباء الذين كانوا جزء من نسيجها الاجتماعي ، ومن المحامين الذين دافعوا عنها وعن حقوق أهلها ، ومن المهندسين وأصحاب معامل الطابوق والكاشي ، والفنادق البائسة التي تضم موظفين نسبوا للعمل فيها ، ونواديها التي تنافست في الأماسي الجميلة وضمت تجمعات أولادها من الموظفين والمعلمين وغيرها من الأماكن التي تشكل قلادة المدينة ، وحدائقها التي كانت تنافس الهواء اللاهب في الصيف فتكسر شدته . كيف يمكن لأجيالنا القادمة ان تتذكر تضحيات شهداء الحركة الوطنية ممن ذكرناهم سابقا في كتابنا المتواضع 
( أوراق من ذاكرة مدينة الديوانية ). 
ومن لم تحضرنا الذاكرة أمثال الشهيد جميل أمانة وصباح الصياح وغيره من شهداء الحركة الإسلامية وعقيل محمد طه وعبد الزهرة محمد حسن ومجيد رسن وصميدح خديم الشطاوي وصباح كاظم فتحي سلطان وطشار كاظم من شهداء الحزب الشيوعي العراقي للديوانية أسرار كامنة في نفوس من أقام بها ومن عاش أيامها واستنشق من تراب أزقتها المتربة وسكن بيوتها القديمة ، أسرار تغور في عمق النفس البشرية حول عشق من زارها وتعرف عليها وعمل بها ، وتتشعب تلك الأسرار لتنتقل مع أبنائها أينما حلوا فتجدها مرسومة في ذاكرتهم وفي بؤبؤ العيون ، وحاضرة في أماسيهم وسهراتهم أينما حلوا في كل زمان ومكان . سرها في ميزتها أنها لم تكن تعرف الطائفية أو التعصب الديني وحتى السياسي رغم فقرها وإهمالها ، سرها في إمكانيات أولادها أن يكونوا أرقاما صعبة ومهمة في المجال السياسي والثقافي والفني والرياضي والاجتماعي ، سرها في إنها لا تشكو ، وإنها محكومة من غير أولادها دوما ، كيف اليوم نعيد لها العوائل العفيفة التي تم تسفيرها بزعم التبعية وهم من حجارتها ؟ وكيف نقنع اليهود بأن محبتهم لم تزل مزروعة في القلوب ، وان للمسيحيين مكانا في القلب قبل المكان ؟ كيف يمكن أن نتعاون كلنا لنعيد جزء من ذلك الزمن الجميل حين تنتشر المحبة والتقدير والتعاون بين الناس ؟ وحين يكون للمجتمع الديواني صوت وتأثير في أن نعيد للديوانية مكانتها وهيبتها وأناقتها ، حين كانت بحق يطلق عليها زهرة الفرات ، وحين كان الناس يتغزلون بلياليها ونواديها وجلسات مثقفيها ونظافة شوارعها ، وحين كان الناس يتفاخرون بمجالسها الدينية ومحاضرات خطباء منابرها وهم يعتمدون الوسطية ويدعون الى المحبة والتآخي . أسرار الديوانية عديدة لايمكن ان يتم حصرها في مثل هذه الكلمات التي تختزل محبتنا لها وترسم صورتها سابقا للأجيال التي لم تلحق زمنها . الحنين الى المكان رغم كل الظروف والمحن التي مرت بها الديوانية ما يشعر به أولادها ، وقياس الزمن الماضي بالرغم من بساطته مع الزمن الحاضر وتردي حال المدينة ، معاناة أسواقها وشوارعها وانقطاع الخدمات عن أحياء عديدة حولتها الى مناطق غير صالحة للسكن ، مدارسها التي تشكو التجديد والإصلاح ، كل خدمات الدولة التي تفتقر الى أبسط مقومات الخدمة في أفقر 
البلدان .
نسبة الفقر التي تغزو مجتمعها والبطالة التي تخيم بشبحها على شبابها وخريجيها ، وربما الحنين الى المكان يعيدنا الى عدم قدرتنا على استعادة شخصيات لن تتكرر في الديوانية لكنها حاضرة في عقول رجالها ، وربما تشكل الذكريات وبقاء تلك العوائل التي رغم رحيل رجالها نبقى نتوسم خيرا بالأولاد والأحفاد . ما يشعر به ابناء هذه المدينة الفقيرة الواقفة بشموخ تتحدى الزمن والعثرات يشكل سرا عميقا من أسرار الديوانية مثل أسرار سومر ونيبور .