بغداد: مآب عامر
الهجرة ذلك الهاجس الذي يتغلغل كبديهيَّة في الثقافة الشعبيَّة العراقيَّة على مدى عقود سابقة، وأصبحت طبيعة ثابتة يسعى إليها الكثير من الشباب الذين يشككون في مسارات قد يعتبرها غيرهم محسومة، تفتح رواية «غريزة الطير» لمؤلفها عبد الزهرة زكي والصادرة عن دار الرافدين 2023 الباب على حياة مربكة شديدة الصعوبة، وضغوطات نفسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة في مدينة البصرة، وتحديداً خلال فترة حكم النظام المباد.
يكتب عبد الزهرة زكي سطور الرواية وهو يفكر بوضوح في مشكلات تواجهها هذه المدينة (البصرة). وتقدم فكرة السفر الطريقة الأكثر منطقيَّة لتجديد حياتنا وأفكارنا وكذلك لمواجهة التحديات، فمن رمي جثث المغدورين في المدينة، إلى اكتظاظ السجون وتزايد الاعتقالات يبحث الشاب والرجل العراقي عن ملجأ ومهرب من واقع مرير متخم باللا أمل. فتأخذنا الأحداث عبر سطورها إلى ذاكرة عراقيَّة، ربما أقلها الطاقة الكهربائيَّة، كما يذكر «لم يعد الليل وقتا للنوم والراحة قد ما بات مشكلة تدعو إلى القلق والتحسّب من حلوله، الليل وقت للعذاب. حتى في آخر الليل حين أكون أنا، مثلا، على سطح الطابق الثاني في المنزل بحثاً عن نسمة هواء، فلا أصادفها، فسيكون عليَّ الاستعداد لعناء الحرب مع البعوض الذي عادةً ما يتكاثر في هذه الأجواء»، هذه الجزئية البسيطة تدفع القارئ للشعور وكأنَّ الكاتب يخبرنا بأن الطاقة الكهربائية هي مسألة (قيد النظر) في محاولة إقناعنا بأن هناك شيئاً جوهرياً داخل السطور نفسها.
الرواية تظهر فيها ملامح اليأس الذي ينبثق من ذروة خوف يتسلل من بين الأحداث الرئيسة عبر حياة أشخاص ضائعين ومهددين من أصدقاء ومارة في حياة البطل، شخوص يصارعون غاية في الهروب، لا يملكون أي حق بنسيان مصابهم أو تناسيه، فؤاد أحدهم محجوز بلحظة مقتل زوجته وطفله، التي تستمر بالحضور في مخيلته وهو لم يرها، كما في مقطع من الرواية «قبل شهرين نقلت من الجامعة بعد جلسات تحقيقيَّة أجريت معي في مقر رئاسة الجامعة اثر مقتل زوجتي نهال علي الحسون بأحداث الانتفاضة. كانت حينها في منزل أهلها، وحين بلغهم خبر مقتل فؤاد برصاصة قناص خرجت من البيت تركض حافية، ووقفت على أخيها جثة هامدة في بركة دم. ولم ينه مأساتها سوى رصاصة أخرى من القناص أصابتها في القلب. بقيت الجثتان في الزقاق، وقد تيبّس الدم حواليهما. لخمسة أيام لم يقوَ أحد على الاقتراب حتى غادرت القوة المكان، فنقلهما الناس ودفنوهما مع من دفن من قتلى آخرين، ولم يأتوا لي من نهال بسوى حكاية مقتلها، إنها واحدة من حكايات كثيرة مماثلة هي كل ما تبقى للأحياء من قتلاهم».
تبدو رواية «غريزة الطير» التي بـ 341 صفحة من الحجم المتوسط وسيلة لتعزيز فهمنا عن القمع الذي لم يكن فقط في قصص شخوص الرواية، وإعطاء شكل لأسبابه وأعراضه وعواقبه على المجتمع العراقي والهوية الوطنيَّة، فالأجواء في داخل الرواية رسمت بطريقة تلامس واقع القارئ العراقي، وتحديداً ممن عاشوا تلك الحقبة التي تقوم على الإحباط كوسيلة لتصوير مجتمع في أزمة، وتوضيح مفاهيم تتعلق بالتشابك الاجتماعي والسياسي، وكذلك بتمثيلات
الخلاص.
ويذكر أن عبد الزهرة زكي هو شاعر وكاتب وصحافي من العراق. أصدر العديد من المجموعات الشعريَّة. منها: «كتاب اليوم وكتاب الساحر»، «طغراء النور والماء»، و»شريط صامت». وله دراسات حول الشعر بعنوان «طريق لا يسع إلا فرداً». آخر إصداراته الشعرية «الديوان الغربي للشاعر الشرقي».
وجاء في كلمة الناشر: «الحياة التي تقلّل مقدارها الكوارث يمكن للأرواح السامية أن تضاعف عمقها»، هذا بعض ما تقوله (غريزة الطير). إنها رواية تقيم عالم أبطالها المترع بالعاطفة والحكمة والجمال على تخوم عالم صاخب بالخوف والقسوة والانكسار. ما بين هذين العالمين المتنافرين تمتزج مصائر الأمكنة بمصير الإنسان، حيث تسترجع الرواية التعارضات الصادمة ما بين الحياة والموت، الضغينة والتسامح، الكرامة والانحطاط، الحب والكراهية، الهجرة والمكوث، ولتنسابَ الأوجاع عبر وقائع جارحة بآلامها، وليتدفق النبل الإنساني بلغة آسرة بصفائها.