بغداد: نوارة محمد
تعود ظاهرة اللجوء لجنس الرواية إلى عقدين من الزمن وقد تفاعلت مع ظهور البوكر العربية وعزوف دور النشر المحلية عن التعامل مع دواوين الشعر والمجاميع القصصيَّة؛ لهذا فالظاهرة تعد مصنوعة في جانب منها لكن هذا الكم الهائل من الاصدارات الروائيَّة أوقعنا في الاستسهال والسطحيَّة، بل أدى الأمر إلى انحسار فن الرواية وظهور كتابات لا تمت للرواية بصلة وتفتقد إلى أبسط مقومات الفن وصار الفن الهابط هو الشعار الأبرز بين الأوساط الثقافيَّة.
من المؤكد أنَّ صناعة النص بحاجة لإمكانات سرديّة سليمة، ولغة متماسكة، وفكرة جوهريّة، والسؤال المُلحُّ هنا: هل تتحقق هذه الأدوات بين أبناء الوسط الأدبي العربي وصُنّاع أدب الرواية؟
يرى النقاد أن هذا التسابق بين الكتاب إلى عالم الرواية الذي بات واجهة الشهرة والانتشار بفعل الجوائز التي أنتجت لنا روايات حسب الطلب، أسهم في استعجال البعض لخوض هذا المضمار المعقد والصعب، إلى جانب المتغيرات السياسة والانفتاح الديمقراطي اللذين أسهما بتغير طبيعة الأدب وتعدد الرؤى والأفكار والمرتكزات البنيويّة، إذ يتحدث الناقد والكاتب أحمد جار الله ياسين عن ذلك قائلا: «انتشار كتابة الرواية في عالمنا العربي لا سيما في العقدين الأخيرين كان نتاج المتغيرات السياسيّة التي حدثت وانتجت انفتاحا ديمقراطيا أوسع يسمح بتعدد الرؤى والأفكار والأصوات وهي من مرتكزات بنية الرواية، التي ظلت ثانويّة عندنا بسبب هيمنة الشعر والصوت الغنائي الواحد المناظر لصوت السلطة الواحد والدكتاتوريات، ومن ثم تسبب هذا الانفتاح المفاجئ على السرد نتيجة سرعة المتغيرات السياسيّة وتراجع الصوت الواحد بشيء من عدم التوازن عند الكتاب الذين استعجلوا الخوض في هذا الفن المعقد الصعب، واهتموا بعرض الأفكار أكثر من الاهتمام بطريقة البناء والسرد، فضلا عن تسابق الكتاب إلى عالم الرواية الذي بات واجهة الشهرة والانتشار بفعل المسابقات التي أنتجت لنا روايات حسب الطلب أو شروط المسابقات وليس حسب المواهب وشروط الإبداع».
ويرى مثقفون أننا في مواجهة مع هؤلاء الفاتحين ممن تطفلوا على الأدب الذين صادفوه في «فيس بوك» وهنا يقول الناقد بشير حاجم: لاعتبارات خطيرة جدّاً، لا مجال لذكرها الآن، هنالك كثيرون، شباب ـ شيّاب، ممّن تطفّلوا على (الأدب)، عموماً، إذ عرفوه، أو تعرّفوا عليه، بما صادفوا عنه في «فيسبوك»، خصوصاً، بعدما كانوا بلا أدب. هكذا أرادوا له، لهذا الميدان الفذّ، أن يصير مطيّتهم الجمعيّة، معتقدين أنّهم فرسان!، مُذْ وضعوا فيه أولى خطواتهم، حيث لا رحلة ألف ميل ولا حتى سباق مئة متر، كأنّهم فاتحون. أخطرُ هؤلاء الفاتحين، غير المحرّرين، مَنْ يدّعون أنّهم صنّاعٌ لأدب «الرواية»، أيْ روائيّون، وما هُم في حقيقتهم، أو واقعهم، سوى «صرّاف آلي»، في فندق ذي سبع نجوم، تَسحب أمواله السُّحت دور نشر ومراكز ثقافة واتّحادات أدبيّة وصحف يوميّة. فدور النشر ذات تجارة ربحيّة طمّاعة، ليست إبداعيّة قيميّة، لذلك تَطبع أولى رواياتهم، الغثّة: الرديئة السيّئة الفاسدة، من دون أية مراجعة فنيّة، أو موضوعيّة، أو لغويّة، أو أسلوبيّة.
ويتابع حاجم: مراكز الثقافة التي يديرها موظفون أميون، فضلاً عن الاتحادات الأدبية وأعضاء هيئاتها العامة لا تختلف عن كلّ روائي حرّيف، وهي تستقبل هذا الانتاج بمباركات سريعة من لجان قبول جاهلة بأبسط أبجديّات (الرواية) تجنيساً أدبيّاً ثم نصّاً إبداعيّاً. أمّا الصحف اليومية، بكل ما لديها من مواقع تواصليّة، فتوثّق لهم ذلك كلّه في صفحاتها الثقافية عبر أخبارها الآنيّة وتقاريرها المصوّرة وتحقيقاتها التفصيلية. ممّا يعني أن لهذه الأطراف الأربعة، “وما خُفي أعظم”؟ مساهمات أساسية في تفشّي هذا (التصدّع الثقافي) الممثَّل بظاهرة (الرواية الأولى: حضور الوجاهة ـ غياب الموهبة).
هذه الكثرة الفيضانيَّة التي يواجهها صنف الرواية الساذج غير خاضعة للمعيار النقدي عمل كُتابها على استهداف الواقع الممزوج بالخيال تخلو الاشتغالات البنيوية واشتراطات العمل الفخم وهذا واحداً من أسباب كُثر جعلت الرواية أشبه بالتقليعة السمجة لكل من يستطيع الكتابة ومن لا يستطيعها أيضا. على حد وصف الكاتبة والناقدة رنا صباح التي تقول: “أثار تساؤلكم لديَّ فكرة قديمة قالها الفيلسوف ارسطو طاليس وهي “أن تعرف نفسك هي البداية نحو بلوغ الحكمة” إذ إن من الحكمة ان ندرك ما نستطيعه ومن ثم نضع موطئ قدم لمشروع البداية، ان نعي ونحدد بشكل فعلي ان هذه بدايتنا الحقيقية، ونتفكر كيف بدأنا وما هي مقومات نشوئنا، وللأسف أن ما يثير الهم في قلوبنا هو ما نجده من كثرة مستفيضة لمنجز روائي ساذج، ومريض بالجهل، وفاقد للنباهة، ساعدت في انتشاره كالنار في الهشيم دور النشر غير المسؤولة وغياب المعيار الثقافي النقدي الرصين والنظر للعمل السردي والروائي تحديدا على أنّه عمل ليس صعبا ومن السهولة لأيِّ كاتب مهما كان مجال اهتمامه أن يبدع رواية متناسين اشتراطات هذا العمل الفخم من مقدرة على استخدام اللغة وضلاعة في تكوين الفكرة وكياسة في صهر التجربة وصناعة عوالم وحيوات بتفاصيلها الدقيقة وربما المملة أيضا بما يخدم الإبداع، والاشتغال على البنى الفنيّة وطرق استثمار الواقع وهو ممزوج بالخيال، وغير ذلك من المحددات والرؤى الكثيرة والمهمة التي أهملها الكثيرون ومن وقع في ذلك الشرك ليس أصحاب المنجز الأول فقط، بل أصبحت كتابة الرواية أشبه بالتقليعة السمجة لكل من يستطيع الكتابة ومن لا يستطيعها أيضا.
وما يدهشنا أن نجد نقادا وشعراء ومثقفين مبتدئين في الصحافة يتجرؤون على كتابة الرواية ويعدونها خزينا وارثا ميسورا لينشئوا اسماء رنانة لهم في هذا العالم الواسع والخطر، وبذلك وقع العتب عمن يحاول الكتابة لأول مرة فقد يتراجع عن سن السكين في هذا المجال عندما يعي حجم جرأته التي ليست
في محلها”.