خلال الأسابيع القليلة الماضية، أدت الاحتجاجات التي أطلق عليها “الربيع العربي الثاني” الى سقوط رئيس الجزائر والسودان. لكنهما لم تكونا مجرد ثورات شعبية، ففي كلتي الحالتين، تدخّل الجيش بافتراض دعمه للتظاهرات المناهضة للحكومة. فبالنسبة للجزائر، أزاح ضابط كبير رئيسا صوريا، ويزعم حاليا باصطفافه الى جانب المحتجين؛ أما السودان، فقد اعتقل وزير الدفاع رئيسه ووضع الجيش على رأس موقع المسؤولية لمدة سنتين لأجل “حماية الثورة”، وبعد ذلك، تنازل عن موقعه، وسمى أحد الجنرالات لقيادة البلاد مؤقتا. وفي الأثناء نفسه ، شن جنرال داخل ليبيا المجاورة للبلدين هجوما على العاصمة طرابلس ضمن مسعى لانتزاعها من حكومة مدنية تكافح للبقاء.
ماض مؤلم
يذكر الانقلابان المدعومان من متظاهري كل من الجزائر والسودان بثورات الربيع العربي الأولى التي انطلقت مطلع العام 2011، لتسقط حكومات تونس ومصر وليبيا واليمن، وأدت الى حرب أهلية سورية. غير إنه، ومع استثناء تونس، لم تحصل هناك نهايات مفرحة، بل وحتى تونس فإنها تعاني من عدم استقرار حكومي مزمن.
فبالنسبة لمصر، أفضت التظاهرات الى الإطاحة بالرئيس الاستبدادي، حسني مبارك، وانتخابات ديمقراطية جلبت زعيما اسلاميا الى الرئاسة، هو محمد مرسي. وحالما صار مرسي نفسه هدفا لتظاهرات جماهيرية، تدخّل الجيش ونصب اللواء عبد الفتاح السيسي رئيسا أواسط العام 2013، وبعد احتفاء المتظاهرين به، أثبت السيسي فيما بعد كونه استبداديا مثل مبارك. هذا السيناريو الذي يخشاه الكثيرون عبر شمال افريقيا، حتى مع تطلّعهم لتجنب المواجهة مع الجيش، وما يتلوها من فوضى مدمرة، كما حصل لدى انتفاضات سوريا وليبيا واليمن مطلع العام 2011.
ومع ذلك، تعد أوجه الشبه واضحة للعيان، فالجنرال خليفة حفتر، وهو عسكري متمرّس، تورّط بهجوم عسير للاستيلاء على العاصمة طرابلس، ليأخذ موقع الرجل القوي السابق معمّر القذافي. ويعمل الفريق أحمد قايد، رئيس أركان الجيش الجزائري، للحفاظ على رفاق السياسة والأعمال التجارية والجيش الذين حكموا البلاد لعقود. ونصّب وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف مجلسا عسكريا بعد إزاحة الرئيس عمر حسن احمد البشير، منهيا حكما طال ثلاثين سنة وأصبح هو على رأس المجلس العسكري الحاكم. ثم أنهى بن عوف حكمه الذي استغرق ثلاثين ساعة فقط، لينصّب الفريق عبد الرحمن البرهان كقائد للبلاد، مع وعود قدمها الجيش بإعادة البلاد للحكم المدني قريبا.
كراهية العسكر
“هناك قطعا مساعٍ لجزء من الأنظمة القديمة للحفاظ على السلطة، كما لاحظنا خلال الجولات السابقة لانتفاضات مصر ودول أخرى،” كما يقول “تيموثي كالداس”، زميل معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، ويضيف أنه”من الخرطوم الى الجزائر العاصمة، نسمع محتجين يؤكدون عدم رغبتهم بظهور سيسي آخر، بمعنى رفض المزيد من الحكم العسكري، وهم يريدون رحيل النظام بأكمله، وليس زعيمه فقط أو رئيسه الصوري.” بعض من تلك الدروس تم عرضها قبل اسبوعين، عندما تجمع الجزائريون بأعداد هائلة للأسبوع الثامن على التوالي، هذه المرة للاحتجاج على تعيين عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الامة، كرئيس مؤقت للبلاد، رافضين خطته بإجراء انتخابات بحلول تموز المقبل.
وحصلت مصادمات بين المتظاهرين ورجال شرطة مكافحة الشغب، حيث أصيب 83 شرطيا، وتم احتجاز 180 متظاهرا، مع إشارة المحتجين لاستخدام الشرطة للغاز المسيّل للدموع. أما الخرطوم والمدن السودانية الأخرى، فقد بقي المحتجون في الشوارع طوال الليل مصممين على تحدي حظر تجوال فرضه الجيش من العاشرة ليلا الى الرابعة فجرا.
وأطلقت مجموعة مهنية سودانية، تضم أطباء ومهندسين ومحامين وغيرهم، نداء قبل اسبوعين، لمقاومة خطط الجيش بشكل سلمي، حتى وصل الأمر بهتاف المتظاهرين بشعار “إما النصر أو مصر”، في إشارة لصعود السيسي للسلطة. يقول النداء: “جعل الانقلاب من البلاد عرضة لاعادة المهزلة التي شهدها خلال الثلاثين سنة الأخيرة. كيف يمكن للنظام عدم الشعور بالخزي لسعيه قطف ثمرة كان بالأمس يسعى لإبادتها؟”
ولكن على الرغم من كون هذه الكلمات والتظاهرات مثيرة للالهام، فقد بدأ الجيش وحاشية السلطة بالفعل يفرضون أنفسهم من جديد، كما يقول “جليل الهرشاوي”، أحد باحثي معهد كلينغندايل الذي يتخذ من لاهاي مقرا له، ويضيف أنه “عندما نرى كل أيام الجمع الرائعة هذه التي تشهدها الجزائر، نقول ’هذا رائع، نحن نتحرّك بشكل واضح صوب الديمقراطية‘، لكنه لا يمثل كل ما يحصل.” ويؤكد الهرشاوي أن الجيش في كل من الجزائر والسودان قام بتركيز المزيد من السلطة بيده هذه الأيام مقارنة بوضعه قبل عدة
أشهر.
مؤيدين ومنتفعين
وكما حصل عندما انطلقت انتفاضات العام 2011، بحسب الهرشاوي، تعمل حكومات أخرى في المنطقة، وخشية من شعوبها الهائجة، على المساهمة بهذه التحركات مستخدمة قواعد اللعبة نفسها. وبحلول العام الماضي، كان العديد من تلك الحكومات تتنفس بطريقة أسهل قليلا، وصمدت من عواصف الربيع العربي لسنة 2011، قامعة شعوبها بشبح حمامات الدم التي شهدتها كل من سوريا وليبيا.
خلال الفترة ذاتها، انتفعت دول الخليج الغنية بالنفط من الانتفاضات، التي أزاحت قادة كبار السن ولا يتمتعون بشعبية لتجسد دول استبدادية مرة أخرى برجال أقوياء من أمثال السيسي، الذين أبدوا المزيد من سهولة الانقياد وتأثير نفوذ البترودولار عليهم. وبالنسبة للسعودية والإمارات، كان التجسيد الجديد للربيع العربي “يمثل فرصة، وليس تهديدا”، بحسب الهرشاوي.
من جهة اخرى، كانت الدول الغربية قلقة من مرحلة ما بعد هيجان 2011 والتي نتج عنها ظهور حكم “داعش” الإرهابي في سوريا والعراق، وملايين المهاجرين الى شواطئ أوروبا، وحاولت الدول الغربية العودة الى قواعد السلوك المعهودة، رغم تعهداتها بدعم الاصلاحات الديمقراطية، وهذا ما بدا عليه الحال في ليبيا؛ فبعد العام 2011، انشقت البلاد الى مزيج فوضوي لميليشيات متكتلة ومنكفئة الى سلطتين رئيسيتين، أحدهما الحكومة المعترف بها دوليا تتخذ من العاصمة طرابلس مقرا لها، والأخرى تتمركز شرق البلاد، مع شغل حفتر موقع القيادة العسكرية العليا.
ولفترة طويلة، مدت الإمارات وفرنسا حفتر بالسلاح والمواد والقوة الجوية لمتابعة الحملات المتعاقبة على امتداد البلاد، مع تنسيقهما للدعم الدبلوماسي لصالحه بين الدول الغربية. خلال الأيام الأخيرة، وظف حفتر الموارد نفسها لشن هجوم على طرابلس، لينسف كل الجهود المبذولة خلال السنتين الأخيرتين لعقد مؤتمر سلام يضم جميع الأطراف الليبية المتحاربة كان يفترض عقده بحلول نهاية هذا الشهر.