عواطف مدلول
ليس من عادتي أن أكره أحدا، لكن أكثر اثنين أبغضهما في حياتي هما (سواق التكسي والاطباء).. التصريح الدائم الذي تعلن عنه أمام الاخرين كلما تعرضت لوعكة صحية حتى لو كانت بسيطة، اضطرتها لمراجعة مختص وتناول الدواء، رغم عدم ثقتها بما يقدم من علاجات، وخوفها الباطني الوهمي من آثارها الجانبية، وبالنهاية فإنها لا تلتزم بها إلا بوقت تحدده هي، وسرعان ما تنكر دورها بعد الشفاء.
كذلك تعبر عن غضبها أحيانا مع جملتها المعروفة تلك أثناء دخولها دائرة عملها، وهي في حالة من الانزعاج والتذمر، لا يخففهما إلا فنجان قهوة سادة، المنقذ الوحيد، الذي يلعب دورا كبيرا في تحسين مزاجها، ويجعلها تكف عن الحديث بإسهاب وألم عن معاناتها مع سواق (التكسي)، لعلّها تبدأ يومها بشيء من الهدوء
والسلام.
مشكلتها أنها مصابة بمتلازمة (فرط التذكر)، لذا في كل مرة ينتابها ضحك هستيري، كلما استرجعت مواقف أول أيام لجوئها لاستخدام سيارة الاجرة، بدلا من وسائل النقل العام، التي أخذت تتجنبها كثيرا، لكونها مليئة بالمحاذير وتعرضها لمشكلات عدة هي في غنى عنها، حيث كانت تستعين بإحدى الصديقات أوالزميلات في الجامعة لمرافقتها بـ"التكسي"، لاسيما اللواتي تشترك معهن بالسكن في الحي نفسه، وفي حالة لم تجد من تقاسمها الطريق، تُرغم أحيانا أن تكون بمفردها، وذلك ما يجعلها تُصاب بشعور من القلق، خاصة أنها تجهل نقاط الطريق، وتنسى احيانا بعض تفاصيله، لأنها لا تركز كثيرا فيها، لا سيما اذا سلك السائق طريقا مغايرا عن الذي اعتادته، فتسيء الظن به، وتنسج بمخيلتها قصصا مثيرة لا أصل لها، ترعبها كثيرا، لكونها تحتفظ بحكايات مماثلة، كانت قد سمعتها مسبقا من اسرتها والمحيطين بها، عن ضحايا سواق "التكسي" واختطاف البنات أو التحرش بهن من قبلهم.
بعد مرور سنوات من التخرج وسعيا لالتزامها بالوظيفة، التي لطالما حلمت بها، كان لا بدَّ لها من شراء سيارة خاصة لها، للتخفيف من المضايقات التي تواجهها أثناء محاولتها استئجار "تكسي"، خلال الذهاب والإياب للعمل الذي لا يوفر لها وسيلة نقل، لكن وقوعها في حادث نجت منه باعجوبة نجم عنه أنواع من الاصابات تشافت منها بصعوبة، وترك لديها ردة فعل نفسية منعتها من الاستمرار بتحمل مسؤولية قيادة سيارة، حينها قررت ألا تضع نفسها بتلك المهمة، إلا بعد أن تمتلك الثقة العالية، التي تعيدها للشارع مرة ثانية، لا سيما وقد بات الزحام ظاهرة يومية فيه.
لطالما وجدت موضوع اختيار سائق "التسكي" صعبا جدا، فهي تتجنب الركوب مع الشاب، لأنها تشكك به وتتوقع بانه سوف يسترق النظر إليها، عبر مرآة مخفية، وضعها في مكان ما بالسيارة، لتحقيق أغراضه المرضية أو قد يحاول معاكستها، فتفترض تصورات، بناءً على العديد من الروايات، التي تتناقلها البنات والناس بشكل عام، لذا غالبا ما تفضل سائق "التكسي" كبير السن.
اكتشفت بعد تجربة سنوات لا فرق بين الصغير والكبير بذلك الخصوص، بل بالعكس ربما الشاب مع تغير الحياة بمجتمعنا، وقلة فرص العمل أصبح استئجاره أكثر أمانا، لأنه يهتم بالدرجة الاولى بالسعي لكسب رزقه، ولا يريد أن ينتهي يومه، من دون أن يحصل على مبلغ جيد يعود به لأسرته، على العكس من بعض كبار السن، الذين يلجؤون لامتهان عمل "التكسي" لغرض قضاء الوقت، والحصول على مصرف شخصي لهم حتى لو كان بسيطا، فتوصلت لقناعة أكيدة ان العمر ليس مقياسا لتقييم نوايا السائق وأخلاقه.
مسلسل من المواقف، ما بين سائق ثرثار يملأ رأسها بأحاديث مملة، وآخر يصدعه بالشكوى، التي لا تعنيها، والبعض منهم يطلب منها اختيار سيارة اخرى متعذرا بسبب ما، لأنه لا يجد استجابة وتفاعلا مع أسئلته التي لا معنى له، وفضوله القبيح بالحصول على بعض التفاصيل والمعلومات عنها ليس من حقه معرفتها، من خلال فتح حوارات معها.
مرّنت نفسها على مواجهة كل ذلك ببرودة أعصاب، مغلفة بصمت متعمد عدم الرد، والانشغال بقراءة كتاب أو متابعة الموبايل، لكنها اذا اطمأنت للسائق وتعامل معها كشخص محترم ومنضبط ومتعاون ايضا، فإنها تفاجئه في الأخير بكرمها، حيث تبادر بمكافأته بمبلغٍ اضافي للأجرة التي تم الاتفاق عليها.