القص القصير جدا (الضربة المشهدية غير القابلة للتأجيل) بنية متماسكة بمكوناتها التي تحقق بعدا معرفيا وفنيا بتسجيل لحظتها الواعية التي ينسجها المنتج(القاص) متجاوزا الواقع بايجازه وتركيزه الدال عبر تفاعل التجربة في اعماق الذات، فضلا عن اسهام الخيال كقوة خلاقة في اضائتها ونسجها بتوظيف لغة مستفزة لذاكرة المستهلك (المتلقي) ونابشة لخزينها المعرفي، كونها تقوم على التكثيف والاختزال والحذف والاضمار والتزام الرمزية والقيم الجمالية بوحدة موضوعية مع ابتعاد عن الاستطرادات الوصفية .
و(بصيرة البلبل) بنصوصها التي تجاوزت المائة والعشرين نصا وامضا والتي نسجت عوالمها المشهدية انامل مبدعها القاص حنون مجيد واسهمت دار عراب للنشر والتوزيع في نشرها /2018..لتجاوزها التفصيلات وتركيزها على الهم الحياتي واقترابها بلغتها من الشعرية الحالمة.
(لانه لا يملك نقودا كافية لشراء مجلته المفضلة(المزمار) يقف امام كشك بائع الصحف والمجلات..يستل المجلة يقرأ فيها أحب القصص اليه ثم ما ان يقع عليه نظر البائع وينهره ينصرف مألوما الى كشك آخر.. يستل المجلة نفسها.. يتابع القراءة فيها فاذا نهره البائع هذا هو الآخر ذهب محزونا الى غيره.. وهكذا تدور عجلات هذا الصبي مع المجلة عينها كما تدور عجلات العربة المتعبة مع الطريق العسير..) ص9..
يبني القاص نصه برؤاه وادواته الفنية عبر الوقفة الذاتية الخالقة لصورها مع تنام درامي يعبر عن حركة الحياة التي تتطلب السرعة والايجاز باعتماد الحدث المركزي واللحظة السردية مع تماسك وثراء بنائه الفني ودلالاته المعتمدة على اللغة المكتنزة خيالا وعاطفة واختزالا زمنيا.. فضلا عن اعتماد المفارقة الاسلوبية الادهاشية غير المألوفة..
(عدل عن قراره بعد ان ألقى بقميصه الوردي وقد أمسى عتيقا الى يدي زوجته قائلا: لك ان تمسحي به الطاولة او الكراسي او حتى هذه الارض..وسمعه يفز ويقول: سنوات وانت تلبسني..سنوات وانت تتصور بي اجمل الصور..والله لاقسم عليك بالله ان مسحت بي شيئا لتمسح اولا صورك التي كنت تتباهى بها بصحبتي وتنصرف عني..وقال:هاتيه..هاتيه..سأحتفظ به حتى يبلى او ابلى..الشيطان وضع الله بيني وبينه..ماذا افعل بعد..)ص25..
فالقاص يعتمد المعايير التكنيكية والاسلوبية ببناء نصه.. كالمعيار الكمي الذي يحقق التكثيف والابتعاد عن الاسهاب والايجاز والاختزال والحذف والاضمار بلغة موحية نسيجا في تشكيله..كي يكشف عن الاداء والتعبير ومن ثم اعادة حالة من الوعي بتجاوزه اللغة التقريرية..وهناك المعيار الكيفي والمقصدي..اذ بهما تقوم المقومات السردية، وعبر اهتمام القاص بالزمانية لابراز متغيرات المكان واقتناص اللحظة بطريقة اسلوبية تثير الادهاش..اضافة الى الحوار الذاتي المنولوجي بتصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية..
(الساعة الثانية عشرة ليلا موعد اغلاق الفندق أبوابه فلا يفتحها لاحد من بعد..النزيل الغريب الذي بلغ بذلك ضبط ساعته على الحادية عشرة ليلا وهبط المدينة مرخيا لقدميه العنان..وقد سحرته الشوارع والدروب والنساء الجميلات..
احداهن التي شغف بها وظل يتابعها عبر فاصل خطوتين..ضاقت بخرسه المستديم والتفتت اليه تسأله بتعال بارد عن الوقت..
لما تفحص ساعته وقال الواحدة صباحا أدهشتها فتحة عينيه فتضحك ضحكة مارة وتقول:عيب فنادقنا جميعا انها تغلق ابوابها قبل ساعة من هذا الوقت ولا تفكر طويلا في الضيف..يخلع ساعته ويلقي بها تحت عجلات السيارات..يراوده الضحك على تحطم زجاجها وبعثرة الوقت فيها..ويهيم على هواه..) ص33..
يترجم النص الاحاسيس والانفعالات الداخلية بابداع رؤيوي عميق، بتوظيف تقنيات فنية واسلوبية محركة له، يأتي في مقدمتها الرمز السمة الاسلوبية التي اسهمت في الارتقاء به وتعميق دلالته، فضلا عن التنقيط (النص الصامت) الذي يستدعي المستهلك لملء بياضاته.. كما ان المنتج يحاول ان ينقل اسراره في جو من الايحاء وهو يوغل في العمق الانساني ومن ثم استحضار الحقيقة بذاتها، باقتناصه اللحظات الحياتية وتصويرها بعدسته اللامة لتنتج مشهدا متماسكا مبنى ومعنى ، مع وضوح المعالم المؤثرة التشكيل لفعلها الدرامي المشبع بالفاظه الايحائية للتعويض عن وحدة التراكم والاستطرادات الوصفية والحوارية، كون (القص القصير جدا فن مضغوط لا يستقيم فيه الاداء بالاسهاب وانما بثراء اللفظ وتركيز العبارة وبالايحاء الذي تنطوي عليه الصور المتتابعة..فضلا عن كثافة الحوار..)على حد تعبير الناقد ياسين النصير..
وبذلك قدم القاص نصوصا تسير بمستويين ابداعيين:اولهما المستوى الفكري وثانيهما المستوى الكمي والكيفي..