الصدمة في رماد نوتردام

ثقافة 2019/04/28
...

أليس كيلي- الاندبندنت البريطانية 
 
ترجمة: مي اسماعيل
 
 
 
الكُتّاب مؤرخو الثقافة في عصرهم، وفي أعقاب حريق كاتدرائية نوتردام بباريس تقول كاتبة المقال أن الكتابة عن الدمار أمر قديم قِدَم الكلمة ذاتها.. 
وقف الجمهور مذهولا أمام منظر ألسنة النيران وسحب الدخان المتصاعدة من هيكل كاتدرائية نوتردام يوم 15 نيسان الجاري؛ وقد تحول ما كان منظرا مألوفا في صور السياح والبطاقات البريدية الى شيءٍ غريب. شاهد الباريسيون مذعورين معلما هاما من مدينتهم ينهار أمام أنظارهم؛ مما أعاد للذاكرة وجوه سكان نيويورك (غير المصدقين) وهم يرون انهيار برجي التجارة في 11 أيلول سنة 2001. من الواضح أن السياقات السياسية لهذين الحدثين مختلفة تماما؛ فأحدهما تدمير بفعل النيران، والآخر نتاج عمل ارهابي. لكن ما يشتركان به هو الاحساس الغريب بمشاهدة حقبة تاريخية تنتهي في وقت حقيقي؛ نهاية أيقونة ثقافية بقيت واقفة (كما في حالة كاتدرائية نوتردام) عصورا تاريخية متعددة. 
عدت للبيت بقلب حزين
قد تتحدث مقالات تنشر في الاسابيع القادمة عن أهمية هذا الحريق؛ ليس بالمعنى الحرفي فقط، بل لموقعه في المخيلة الثقافية.. فقدان ما تمثله الكاتدرائية وقيمتها الرمزية والحرفية معا. وهذا لن يكون المثال الأول؛ فالتعبير عن الفقدان الثقافي جزء من تقليد طويل متعدد الأوجه. وقد رأينا عبر التاريخ أمثلة لكتاب ومعلقين يعبرون عن الصدمة وعدم التصديق والرعب تجاه مبانٍ تختفي أمام أعينهم، وهياكل من الخشب والحديد تتحول سريعا (وبلا رجعة) الى انقاض، ومدن تتحول الى تراب!واحد من أشهر الأمثلة هنا رسالة “جايوس بلينيوس الأصغر” (= محام ومؤلف وقاض روماني. المترجمة) عن ثورة بركان فيزوف (في 24 أغسطس 79 م) ويقول فيها: “كان الرماد يتساقط بالفعل؛ وإن لم يكن كثيفا جدا حتى 
الآن. 
نظرتُ حولي: هناك سحابة سوداء كثيفة تقترب من خلفنا، لتنتشر فوق الأرض كالفيضان. لم نكد نجلس لنستريح حتى حل الظلام؛ وهو ليس ظلام ليلة غائمة أو بلا قمر؛ بل كأن مصباحا أُطفئَ في غرفة مغلقة.” 
هذا ليس ببعيد عن الاستجابة المادية التي سجلها المؤلف الإنكليزي “صموئل پپيس” في كتابه «يوميات- »Diary (وهو صورة حيّة للمجتمع اللندني. المترجمة) عن حريق لندن الكبير عام 1660؛ إذ قال: “كنا قريبين من النار قدر ما يسمح لنا انبعاث الدخان؛ وعلى صفحة نهر التايمز وقفنا ووجوهنا تواجه الهواء؛ شعرنا وكأننا نحترق برذاذ من قطرات النار. وعندما لم نعد نحتمل البقاء على صفحة الماء؛ ذهبنا الى حانة صغيرة على ضفة النهر، وبقينا حتى تكاثف الظلام، وشهدنا نمو 
النار. 
وكلما نمت انتشرت أكثر فأكثر.. في الاركان وعلى المنحدرات، بين الكنائس والمنازل، وعلى امتداد البصر فوق تلة المدينة.. لهب دموي خبيث؛ لا يشبه اللهب اللطيف في نار اعتيادية.. بكيتُ لرؤيته. احترقت المنازل والكنائس جميعها معا، واحدثت النار ضجة فظيعة؛ فطقطقت أخشاب المنازل وهي تهوي.. فعدت الى البيت بقلب حزين..”.  
 
اعادة عيش الصدمة
يصف أولئك الكتّاب عادة المشهد الذي عايشوه والاحساسيس المادية التي شعروا بها؛ وهي محاولة تدوين الحدث للتوثيق 
التاريخي. 
والكتابة عن حدث ما يمكن أن تكون أيضا (في بعض الأحيان) شكلا من أشكال إعادة عيش ذلك الحدث أو التفاعل معه؛ خاصة إذا كان يشكل صدمة شخصية للكاتب. وللعديد منهم يرتبط تدمير المباني بأجساد الموتى.. ربط الكاتب الأميركي “جاك لندن” في مقال كتبه لمجلة “كوليير” عن زلزال سان فرانسيكو سنة 1906 بين تدمير المباني وقتلى الزلزال، قائلا: “شهدت ليلة الربعاء تدمير قلب المدينة ذاته.. ان تجميع المباني التي دمرت في قائمة يعني وضع دليل لسان فرانسيسكو؛ وجمع تلك التي لم تُدمر يعني سطرا واحدا وبضعة 
عناوين. 
وتدوين أفعال البطولة التي حدثت سيملأُ مكتبة عامة ويقود لإفلاس صندوق “ميدالية كارنجي” للتكريم الأبطال. 
لكن تدوين جميع القتلى أمر لن يجري أبدا؛ فبقاياهم كلها دُمّرت في اللهب.. ولن يُعرف أبدا عدد ضحايا 
الزلزال”. 
كتبت “إديث وارتون” (=‎ كاتبة وروائية، ومؤلفة ومصممة أميركية. المؤلفة) بنفس المفهوم عن الدمار الذي شهدته في رحلاتها الى مناطق المعارك خلال الحرب العالمية الأولى، في مقالات لمجلة “سكريبنر” سنة 1915، ونشرت لاحقا تحت عنوان- “فرنسا المقاتلة”: “قُصِفت مدينة “إيبرس” ((البلجيكية)) حتى الموت؛ ولا زالت الجدران الخارجية لمنازلها قائمة، حتى لتبدو للناظر عن بُعد وكأنها مدينة حية؛ بينما يراها الناظر القريب جثة 
ممزقة. 
كل ألواح النوافذ مهشمة، ويخلو كل منزل تقريبا من السقف.. انفصلت بعض الواجهات تماما؛ فتكشفت الطوابق المختلفة؛ حتى وكأنها ديكور مسرحي لمهزلة”. 
 
مشهد خوف ومأساة
مقارنة وارتون الحدث بجو المسرحية ليست غير نمطية؛ إذ يمكننا رؤية نفس الاحساس بالهازل واللامعقول في رد فعل الكاتب الأميركي “جون أبدايك” على أحداث 11 أيلول، كما نشرها في صحيفة “النيويوركر” يوم 21 أيلول سنة 2001: “ونحن نراقب اندفاع ألسنة اللهب لتغلف البرج الثاني انتابنا احساس بأن الحدث ليس حقيقيا بالكامل؛ وكأنه على شاشة تلفاز.. وأنه شيء يمكن إصلاحه؛ وأن التكنولوجيا العالية التي ترمز لها الأبراج ستجد وسيلة لاخماد النيران وعكس
 الأضرار”.  
هناك بالطبع (عند جميع أولئك الكتّاب) خوف تجاه الذات؛ حتى لو كنا نعرف أن تلك الذات ليست في خطر.. كتب أبدايك يقول: “عرفنا أننا قد شهدنا للتو موت الآلاف؛ فتشبثنا ببعضنا وكأننا نحن أيضا على وشك 
السقوط”. 
هذا الشعور الغريب بمشاهدة حدث متفرد، والذي يصاحب تدمير المعالم البارزة في وقتنا الراهن، يعني أن بالإمكان اعادة معايشة اللحظة مرارا وتكرارا؛ إذ تصبح صور ذلك المشهد أيقونية.. وهذا يربط الحدث المتفرد بالحِداد؛ كما يرى منظرو الثقافة البصرية، ومنهم الباحثة والكاتبة الأميركية “ماريتا 
ستيركن”. 
وجدت “وارتون” (وهي تكتب عن تدمير كاتدرائية نوتردام في ريمز سنة 1914) جمالية ما في أنقاضها الغريبة: “حينما بدأ القصف الألماني كانت الواجهة الغربية مغطاة بسقالات الترميم.. فأحترقت بفعل القنابل، وأحاطت النيران بمبنى الكنيسة 
كله. 
الآن وقد ذهبت السقالات، بقي في الساحة القروية المملة هيكل بدا من الغرابة والجمال حتى بات على المرء أن يبحث في “جحيم دانتي” أو في رواية عن سحر شرقي ما عن كلمات تصوّر ذلك المشهد الغرائبي المضيء... ويتضاعف عجبنا من ذلك الانطباع بإحساسنا أنه يتلاشى ويضمحل، وادراكنا أنه كجمال المرض والموت، وأن كل واحد من التماثيل (متغيرة الشكل) سيتفتت ويتناثر تحت أمطار الخريف، وكل حجر وردي أو أصفر قد تآكل بالفعل حتى الصميم.. وأن كاتدرائية ريمز تتوهج وتموت أمام أنظارنا 
كالغروب”. 
ولعلنا نجد السلوى أو الحزن في معرفتنا أن مشاعرنا اليوم تجاه خسارة شيء لن يُعوّض، وتجاه دمار الثقافة ومعها جزء من نفوسنا؛ أمر ليس بالجديد.