خائِنة

ثقافة 2019/04/28
...

 
انمار رحمة الله
 
في البدء كان الأمرُ مزحة. أطلقها صديقُ (كاتب القصص) في جلسة جمعتهما مع شلة الأصحاب. حين سأله صديقه عن سبب غيابه الطويل، فردّ كاتبُ القصص منتشياً “ أنا عاكف على كتابة قصة.. لقد استغرقتُ وقتاً طويلاً لكي ألملم خيوطها، ولكنني مازلت متردداً.. إنها قصة رهيبة، وأحاول قدر الإمكان إخراجها بشكل مختلف”. لم ينتظر صديقه حتى رد عليه ضاحكاً وأضحك الجميع بما فيهم الكاتب: “إذن خذ حذرك.. قد تقتلكَ القصة يا صديقي”. وأنتهى كلّ شيء ليلتها، الجلسة والصحبة الوقتية، ثم تفرّق الأصحابُ في الطرقات عائدين إلى منازلهم. هذه هي المزحة التي تفوّه بها صديق الكاتب، “خذ حذرك قد... (قد ماذا ..؟ تقتلني قصة ؟ كيف يحدث هذا؟!)” هكذا صارت الأفكار تحيط بعقل الكاتب وهو في طريقه للمنزل. لم يشعر بطول ورتابة الطريق الذي يقطعه سيراً كل ليلة، بل وصل إلى بيته وهو ينظر إلى شباك غرفته المطل على الشارع، لتراوده رغبة الاستغراق مثل كل ليلة في كتابة وتنقيح القصة ذاتها.. حين دلف الكاتب إلى غرفته، كان الجو بارداً، يعيش عازباً بعد أن اعلن مراراً أنه تزوج كتابة القصص وسيظل وفياً لها.. عجل إلى تشغيل المدفأة، ثم خلع ملابسه وهرول صوب حاسوبه، وكأنه يريد تفتيش قصته، لعلها تحمل سكيناً أو مسدساً. لعلها تخفي كيس سمّ قاتل بين إحدى الجمل!. فتحتِ القصةُ عينيها ونظرت إليه بوجه كلماتيّ ناصع البياض. أعاد الكاتبُ قراءتها مرة ،مرتين، ثلاث مرات، ولكن لم يعثر في سير قراءته على شيء مريب فيها!. ( لقد تأثرت كثيراً بهذا الجو الخيالي.. صرتُ أصدق كل كلام حتى لو كان سخيفاً.. غير معقول) قال الكاتب في نفسه وهو ينظر إلى ملف الـ(وورد) على شاشة الحاسوب واستمر يحدث نفسه (إنه ملف رقمي يشتغل بنظام تشغيل إلكتروني، والأمر كله مرهون بطاقة تصدرها البطارية القابعة في مؤخرة الحاسوب. كيف لهذه القصة الراكدة في الحاسوب أن تقتل كاتبها مثلاً؟!). وبعد أن نفض الكاتبُ غبارَ الوسوسة الجبرية من ذهنه، عاد إلى تنقيحها للمرة العشرين، يعيد كتابتها، تزيينها. هو تعوّد قراءة قصصه بصوت عال، لا لكي ينتبه إلى الأخطاء والهنّات، بل يريد الاستماع إليها – القصة - من خلال صوته، ثم بدأ يقرأ ويصحح ويعيد النظر. بعد ترتيبه لأحداثها، وتشذيبه الدقيق وإكمال حبكتها، المبنية على قصة حب بينَ عشيقين. بطلةُ القصة (الزوجة) تعيش مع زوجها حياة ملل ورتابة، وفي الوقت ذاته كانت مغرمة بعشيقها الذي سرق عقلها وقلبها بحبه وولهه. وقد رتبت الزوجة مع عشيقها أن يقتلا الزوج، لكن كاتب القصة كان حائر في كيفية تنفيذ الجريمة!. لقد رسم خطوطاً كثيرة لنهايات متعددة ولم يكن أمامه سوى اختيار نهاية ملائمة لقصته. وأخيراً وصل إلى نهاية راقت له، أن يدخل العشيق موارباً، بمساعدة عشيقته ويخنق زوجها وهو نائم. ( إنها جريمة كاملة) هتف القاص بعد أن وضع لمساته الأخيرة على مسودة النهاية.
في جلسة أخرى من جلسات الأصحاب، تنوعت فيها الأحاديث من هنا وهناك، أدار صديقُ الكاتب دفةَ السؤال نحو صديقه “ أين وصلت قصتك؟”.. ابتسم الكاتب مرتاحاً لهذا السؤال، حين شعر بالملل من رتابة الجلسة وها قد جاء الوقت ليأخذ دوراً بسيطاً في الحديث عن شيء محبب إليه قائلاً: “ أنهيت الكثير منها، ولكنني مازلت أراجع فيها.. بعض الأمور تحتاج إلى تعديل”. ثم هتف صديقه ضاحكاً “ والله صرت أخاف عليك من هذه القصة.. خذ حذرك منها وإلا صنعت بك مكروهاً”. تضايق الكاتبُ من كلام الرجل وقال : “ ماذا تقصد..؟ هي في النهاية وسيلة ككل الوسائل للبوح ووجهة النظر، بل في بعض الأحيان أعتبرها تسلية خاصة بي.. علام أأخذ حذري؟.”.  ضحك الصديق  بصوت عال وأعاد جملته وعجت الجلسة بالضحك معه حين قال” خذ حذرك يا صديقي.. القصص غدّارة وقد تقتلك في يوم ما”. غادر الكاتب بوجه كسته غبرة الضيق، متجهاً صوب المنزل تهتز في عقله جملة صديقه المعبأة بالتحذير. في تلك الليلة قرر الكاتب أن ينهي كل شيء، ينتهي من وضع اللمسات الأخيرة على قصته، ويرسلها للناشر وتُوضع أمام القرّاء مثل كل مرة. يعترف الكاتب بين حين وحين أن لا راحة في العالم تضاهي راحة نشر نتاجه والاطلاع عليه. ولعل هذا الضيق في صدره ليس من كلام صديقه المليء بالتهديد من قصة كل ما فيها بضع كلمات رقمية.. جلس أمام الحاسوب متحزماً بجسارة وهيمنة، ويتمتم بين جملة وأخرى بعد تدقيقها” أنا من اكتبها.. إنها قصتي.. أنا خالقها.. هي من تخافني وليس أنا”. وحين وصل إلى نهاية القصة، وتأكد أن خاتمتها مستجيبة للفنية في إخراجها. فها هو الزوج قد مات بعد أن خنقه عشيقُ – زوجته - الخائنة، في مشهد تراجيدي راق للكاتب كثيراً. قرر أن يدفع القصة للناشر الصحافي، وبالفعل أتصل به وبعثها له على البريد الإلكتروني.. بعد أسبوع على نشر القصة لاقت رواجاً مذهلاً بين المتابعين، كانت القصة تتقلب في أيادي القرّاء كما تتقلب غانية على الأكف في حفلة ماجنة. ولم يكتف الجمهور بهذا، بل خرجت عن حدود الصحيفة إلى فضاء التواصل الرقمي. في الوقت ذاته، الذي كانت فيه القصة تُستقبل بحفاوة كبيرة كفتاة حسناء بين عشّاقها، كان الكاتب يرقد على سريره لليوم الرابع بلا حراك. ولم يفهم الجيران والمحققون الجنائيون ملابسات وفاته، سوى أن التقرير الجنائي اثبت أنه مات خنْقاً وهو نائم على يد قاتل مجهول.