أ . د. علي يوسف الشكري
ليس لمتتبع للشأن السياسي العراقي، إلا ويلحظ أن تقدما ملموسا يشهده العراق، ويقيناً أن السير بخطى واثقة صوب التقدم واستعادة المكانة الطبيعية للعراق دولياً وإقليمياً، هو حصيلة الوطنية والسعي والحرص، النابع عن شعور بالمسؤولية، وبالقطع أن يدا واحدة لم ولن تكون قادرة على حمل راية التصحيح، ثم التخطيط والانطلاق صوب استعادة مكانة مفقودة .
وليس خفياً عن العارف بالشأن العراقي، القارئ لتاريخه، المتطلع لمستقبله، أن ما واجه العراق بعد سنة 2003 ليس الاستهداف الأول، فتاريخ العراق سلسلة من الاستهدافات، مذ عرف العراق دولة مستقلة، وبالقطع ومن دون تردد القول أن الاستهداف لن يوجه لبلد فقير ناءٍ، هامشي يعتاش على غيره، لكنه يستهدف الكبير، الغني المحوري، القادر على الحركة والتأثير ولعب دور القائد المحرك، وأمام هذه الحقيقة كيف لا يستهدف العراق وهو صاحب الإرث التاريخي الأكبر ، وهو الذي علم العالم مخارج الحروف وأبجديات اللغة وحافات العلوم ولما يزل؟ أليس موقع العراقي الجغرافي سبباً كافياً للاستهداف؟ ألا يكفي أن يكون العقل العراقي الولود الذي استنزف استهدافاً، ولما يزل نابضا قائما بسبب للاستهداف ؟ أليست الثروة غير الناضبة بذاتها سبباً للاستهداف؟ وهل أكثر خزيناً من سلالة علماء العراق الممتدة التي لم ولن تنقطع؟.. وقائمة الأسباب الموجبة للاستهداف تطول.
لقد شرعت القيادة العراقية بحلتها الجديدة المنسجمة، بعهد جديد وهي تعيد بناء الدولة، منطلقة من مبدأ أن العمل الجماعي خيار لا بديل عنه للسير بخطى واثقة صوب بناء العراق الجديد الناهض، وتمخض العمل الجماعي عن انفتاح خارجي وعلاقات دولية لم يشهدها العراق منذ نصف قرن من الزمان تقريباً، فقد تحول العراق إلى قبلة للمؤمنين بأن لا استقرار في الإقليم والجوار العربي والإسلامي، دون عراق ناهض قوي مستقر، ما يفسر التزاحم المحموم من أجل التشرف ببلد السلام، فلم يكد يمر أسبوع إلا وزائر عربي أو إقليمي أو عالمي يحل ضيفاً على العراق، بعد أن شح الضيف وندر على مدى ثلاثة عقود، ومن كان يأم العراق قبل ذلك لا ساعياً لكنه مضطر
وبعد أن كان العراق بؤرة التوتر في المنطقة تحول إلى سفير للسلام، يرفض القوة وسيلة لحل الخلاف، ولا يرى إلا في السلام آلية لتجاوز الصراع .
لم ينعم العراق بأمن منذ ثلاثة عقود مثلما يشهده اليوم، فقد عادت بغداد تلبس حلتها الجميلة بعيدة عن الحواجز والمصدات، ونقاط التفتيش، وعاد الشارع العراقي مكتظا بشعبه المفعم بالأمل، المتطلع لغد أفضل . ويقيناً أن تطور لا يمكن أن يتحقق دونما استهداف لبؤر الفساد، التي استهدفت سمعة بلد وشعب قبل أن تستنفذ ثروة أمة وأمانة أجيال .
والمتتبع للباغظ المتربص الذي نصّب نفسه وصياً على العراق، وهو من راح يتكلم عن النزاهة وهو الفاسد الأكبر، وشرع بالحديث أن دولة السيادة وهو المتطلع لعراق ضعيف، والمذكر بالتاريخ وهو الجاهل، والمتطلع للمستقبل وهو المنتفع المستفيد من ضبابية المشهد، راح يترصد النجاحات ليستهدفه بجيوشه الالكترونية وأقلامه المأجورة .
فبعد العمل الفردي شرع القابضون على قمة الهرم الرئاسي والحكومي والتشريعي بالعمل الجماعي، فعزفت الرئاسات لحناً لم تألفه العملية السياسة من قبل . وبعد التنابز السياسي، راح الشعور الوطني يطرب الآذان، فأصبح التنسيق بأعلى مستوياته، ويقيناً أن الجانب الاقتصادي لم يكن غائباً عن المشهد الوطني، إذ لا استقرار سياسياً من دون تقدم اقتصادي .
نعم ان الجراحات عميقة، وآثار الخلافات لن تندمل بين ليلة وضحاهاً، وأرث السياسات الاقتصادية الارتجالية لن تزول بأشهر أو ربما سنين قليلة، لكن المهم أن نبدأ , فالحركة ولود والسكون عاقر، كما يقول أبو حيان التوحيدي، وعلى المتصدي أن يعلم علم اليقين، أنه سيستهدف ، ويشكك بعمله، لا بوطنيته، وسينسب له من الأخطاء ما لم يرتكبه، وقد يتهم بالتمدد على غيره من السلطات، إياه والتوقف أو التردد والتراجع، كي لا يتهم أو يستهدف، فضريبة النجاح، الاستهداف والتشكيك، ورسم البناء الاتهام، وثمن الوطنية التشكيك بالنوايا، وإلا فهل من انفتاح أكبر من ذلك الذي شهده العراق، إذ كانت بوابته الزيارات المكوكية للرئاسة الثلاثة إلى البلاد العربية وبلاد الإقليم والعالم، حيث استقبل الرئيس العراقي استقبال الأبطال الفاتحين، كيف لا وهو من يحمل بيمنه، راية العراق وبشماله حمامة السلام، فأنتج هذا الانفتاح ثمراً يانعاً يسر الناضرين، فبعد جفاف دولي وشح في العلاقات وسعي وراء إعادة الوشائج، راح قصر السلام وقصر الحكومة يستقبل الأشقاء والأصدقاء والباحثين عن فرصة اقتصادية أو استثمارية . وبعد أن كان العرق أسير الوسطاء المبادرين لحل إشكالياته، أضحى المبادر الوسيط بين المتخاصمين. ويقيناً أن التنقل بين أبناء الشعب، والاطلاع على معاناتهم، والاستماع لمشاكلهم، ومعايشة يومياتهم، لن تمر مرور الكرام، فبعد الأسوار الحاجزة، أضحى الإطلاع عن كثب هو البديل، وبعد أن بحت أصوات ذوي الشهداء وضحايا المجازر بحثناً عمن يواسيهم، راح قصر السلام مشرع الأبواب أمام أسر من قدم وضحى ولم يزل . وهل من جاهل بالفاتورة الباهظة التي لابد من سدادها ثمنا للتصدي للفاسدين والعابثين؟ كيف لا وعروش ستهتز، وأوكار ستستهدف، وسحت سيقف، وحقوق ستعاد، وسمعة ستسترد ؟ نعم سيتهم المتصدي بأنه تمدد على حساب الغير، وأنه بدد الأموال، وأنه ضلل العباد، وأنه امتطى الأجواء رغبة في الاستعراض، وأنه ..... والقائمة تطول، فثمن الوطنية غالٍ، وعلى من قرر وشرع بالتصدي، تحمل الأقل والأكثر، فتاريخ العراق يدون، فمن خان وبدد وباع وهادن سيقف في صف المنهزمين، ومن حاول وشرع ومهد ورمم وبنى وأقام، سيقف شامخاً منتصراً، فلكل عمله ونتاجه وصنيعه، والسعيد من قرأ التاريخ فاتبع أحسنه.