الناجون الأيزيديون.. رحلة نقاهة قد تطول
بانوراما
2019/04/28
+A
-A
وجد جهاد نفسه في مواجهة ابن أخيه، وقد التف بجسمه على شكل كرة وهو يصرخ باكيا دونما توقف، فما كان منه الا ان يفعل ما يفعله الكثير من الآباء: حمله الى السيارة وأجلسه في حضنه وخرج معه للقيام بجولة عبر الطرقات المغبرة وسط المخيم، شمالي العراق، ليقتنص له لحظة مرح وفرح. لقد أصبح مخيم ايواء النازحين الداخليين بمثابة مأوى لجهاد وأقاربه بعد أن هاجم تنظيم داعش الارهابي قرى تابعة للأيزيديين عند جبل سنجار خلال شهر آب من العام 2014، في حدث تذكره الأقلية المقهورة على أنه الابادة رقم 74 لهم.
دلبار، هو اسم الطفل الذي يبكي بحرقة، وكان قد اجتمع مع من تبقى من أفراد عائلته منتصف آذار الفائت، بعد فرارهم من الباغوز، المدينة الحدودية المطلة على نهر الفرات بسوريا، حيث لقي داعش هزيمته على يد تحالف القوات الكردية والعربية المدعوم من الولايات المتحدة. “عندما يكون مزاج هذا دلبار جيدا، يصبح طفلا مرحا، ولن تصدق على الاطلاق بأنه كان محتجزا لدى التنظيم”، بحسب ما يقوله جهاد، الأجير اليومي، الذي لم يكن موجودا عندما هاجم داعش سنجار.
شرب مياه الغسيل
ربما تكون “دولة الخلافة” المزعومة قد انتهت، لكن الذعر الذي تركه مسلحوها على المجتمع الأيزيدي سيبقى راسخا، والى الأبد، في أذهان صبيتها، مثل دلبار البالغ من العمر عشر سنوات، وشقيقه الأكبر دلدار (15 عاما)، اذ يظن من يراهما أنهما أصغر بثلاث سنوات من سنهما الحقيقي، باستثناء عينيهما. يمثل الشقيقان جزءا من جيل من الايزيديين الذين أُعدم آباؤهم، واستعبدت امهاتهم وشقيقاتهم، ووقعوا؛ هم أنفسهم، ضحايا للضرب والتعذيب حيث فقد بعضهم حياته جراءه، وشارك آخرون بعمليات انتحارية، فرحلة الشفاء طويلة، والمساعدة المقدمة تكاد لا تذكر.
قضى دلبار ودلدار أيامهما الأخيرة لدى داعش، وهم ينامون في خنادق، يشربون ما يبقى من مياه الغسيل، يتوسلون العوائل من أجل حصة حساء واحدة، ويبذل كلاهما جهدا للتحدث بالكردية بعد سنوات من اجبارهم على التحدث بالعربية.
يقول دلدار: “استغرق الأمر منا يومين فقط لتعلم استخدام البندقية، لكن تعلم القرآن، الى ما لا نهاية” مضيفا: “كانوا يضربوننا ان لم نتعلم الدروس الدينية بسرعة، فتعلمت نحو ربع القرآن، ومن يفشل في تذكره كان يتعرض للجلد بالعصي وخراطيم المياه”.
صبية ضحية لداعش
أما بالنسبة الى ابن عمه، هاني، فكان في حالة بدنية أفضل، لكنه كان مطلعا باعباء الحياة تحت نير داعش. فقضى هاني أكثر من عام سجينا بيد التنظيم قبل أن يتم تحريره مع والدته من خلال مهربين. يقول الشاب هاني: “استغرق الأمر طويلا لتستعيد لغتك وتتخلص من ايديولوجيتهم”، مضيفا: “أحيانا، تعود أفكار داعش لتقفز الى رأسك من جديد: إحفظ القرآن وإنسى عائلتك
الكافرة”.
وبينما ينشغل أبناء العم بمقارنة مشاهداتهم، وهم يرتدون زي نادي يوفنتوس، تتقاطر أعداد المهنئين الى الكرفان الابيض الصغير حيث يسكنون، للتهنئة بعودتهم، بينما يسألهم آخرون عن أقارب لهم لا يزالون ضمن المفقودين.
زياد أفدالو، هو أحد أعضاء فريق تولى مهمة انقاذ الايزيديين من قبضة داعش منذ أكثر من ثلاث سنوات.
يتخذ من ضواحي مدينة عامودا، الواقعة الى الشمال السوري، مقرا له، أدار أفدالو “البيت الأيزيدي” الذي يؤوي الناجين حتى يصبح بإمكانهم اجتياز الحدود والعودة الى العراق. والظاهر أن الصدمة والتلقين. الذي تلقاه هؤلاء الفتية، تجعل من مهمة الاعتناء بهم عملية حساسة. “لدينا هنا صبية عادوا وقد أصبحوا أكثر تشددا من داعش نفسه”، يقول أفدالو، مضيفا: “من يحمل منهم فكرا عقائديا، نتعامل معه بطريقة سهلة ورقيقة حتى يستعيدوا ذاكرتهم”.
تتم استضافة بعض الناجين لدى عوائل قروية ايزيدية في سوريا حتى يعودوا الى بلادهم. يقول افدالو: “أحد الصبية عمره ست سنوات تقريبا، لا يعرف حتى إسمه، لذا أطلقنا عليه أسم “جودي”، وهناك طفل آخر يجهل اسم والده”. استنكر أفدالو، وهو من الطائفة الايزيدية، فشل المجتمع الدولي بتقديم الدعم للناجين منهم، مع اعتقاده بأن العوائل الايزيدية، أو ما تبقى منها داخل العراق، خير من يقدم لهم الرعاية ليستعيدوا كامل صحتهم، موضحا: “لو كان هناك من يهتم بالمجتمع الأيزيدي، لما حصل كل هذا”.
إبادة روحية
تقدم ادارة الحكم الذاتي لمنطقة شمال سوريا مساعدة مالية لبرنامج “البيت الأيزيدي” نحو ألف دولار شهريا كمنحة، لكنه، بالكاد، يغطي التكاليف، الى جانب تقديم الهلال الأحمر الكردي المساعدات الطبية الأساسية. لكن، ولكون سوريا تواجه موجات نزوح منذ العام 2011، لم يكن هناك تجاوب قوي مع مأساة الايزيديين الناجين من معارك الباغوز، وفقا لعاملين في مجال الاغاثة الانسانية شمالي شرق سوريا.
أما بالنسبة للشمال العراقي، حيث العشرات من مخيمات النازحين، فإن الموارد محدودة، ففي دهوك لوحدها، هناك قلة قليلة فقط من الاخصائيين النفسيين الذين ركزوا، بداية الأمر، اهتمامهم على مساعدة النساء الأيزيديات، واليوم صاروا يقدمون المساعدة للصبية كذلك، لكن مساعداتهم غير منتظمة فضلا عن مواجهتها لتعقيدات كثيرة بسبب تشتت الضحايا في أماكن عدة.
غادر العديد من الأيزيديين العراق طلبا للجوء في استراليا والولايات المتحدة وألمانيا، من بين دول أخرى، وهو أمر يعارضه الكثير من قادة المجتمع الايزيدي.
يقول أفدالو: “بمجرد مغادرتهم البلاد، سيتعرضون، روحيا، الى الابادة، فالأفضل لهم أن يتمسكوا بأرضهم وبين ناسهم”.
داخل مخيمات النازحين العراقية، زينت صور المفقودين، من النساء والاطفال بشكل خاص، جدران كل كرفان في المخيم الذي يقطنه أناس من جبل كوجو، وهو واحد من القرى الايزيدية الواقعة عند جبل سنجار التي تعرضت لهجوم من قبل مسلحي داعش. تعد كوجو، من المناطق المتنازع عليها، بين حكومة اقليم كردستان والحكومة المركزية، فبعد أن كان تعداد سكانها نحو الفي شخص قبيل ظهور تنظيم داعش، بات، اليوم، غير معروف التعداد الدقيق
لهم.
سيناريو مقبول
هناك، حيث ارتكبت سلسلة من المجازر خلال شهر آب من العام 2014، بعد أن رفض عمدة القرية، أحمد جاسو، الرضوخ لتهديدات مسلحي داعش بالتحول الى الدين الاسلامي بشكل جماعي، ليكون هو أول من يُطلق عليه النار خلف مدرسة حيث اقدم التنظيم على تجميع مئات الايزيديين.
بعدها سريعا، تم تنفيذ حكم الاعدام بمئات من الرجال، وهو احد أسباب نجاة العديد من الصبية بعمر الخمس سنوات آنذاك، قبل أن يعودوا، أواسط آذار الماضي، الى منازل مدمرة، يفوق عدد النساء فيها عدد الرجال.
يقول باسم، (15 عاما): “لم نكن نتحدث عن هذا الموضوع، لكن خلال تلك الفترة كنا نفكر بعائلاتنا”، مضيفا: “هناك البعض ممن قاتل معهم، والبعض الآخر فجر نفسه، لكن، كان يحدوني الأمل بالخلاص، وكل هزيمة كان يمنى بها داعش، كانت ترفع من آمالي أكثر وأكثر”. وكان باسم قد وجد مأوىً على يد “البيت الأيزيدي” قبل ان يلتحق بأقاربه في العراق الشهر الفائت، وحاله حال الكثيرين من الفتية الذين تلقوا تدريبا عسكريا ودينيا في ظل حكم داعش، ودائما يستذكر ما تعرض له وبشكل يومي من الضرب بالعصي والترويع. أما قاسم، والد باسم، فهو الآخر ناج من مذبحة كوجو، ليكون واحدا من بين 19 رجلا فقط نجوا منها، اذ لا يزال مصير والدة باسم وشقيقه الأكبر مجهولا، لكن ما يبعث الامل لديه أنه كان قد لمح أخاه في الباغوز.
يقول قاسم: “اختلط العديد من الفتية الايزيديين مع عوائل داعش من الاجانب أو حتى السوريين والعراقيين منهم، لكن لا احد يهتم بالسؤال عنهم” مشيرا، “تشتتوا بين مخيمات النازحين في تركيا وسوريا والعراق، والبعض منهم، انتهى بهم المطاف الى دول الخليج”. معلقا بأنه سيناريو مقبول، ويقول افضالو، ان أعداد المفقودين تقدر بالآلاف”.
{العين بالعين والسن بالسن}
يروي الاطفال كيفية اجبارهم على التخلي عن ديانتهم واكتساب هوية جديدة يطلق عليها اسم “اشبال الخلافة”. وتتخلل شهاداتهم المفككة عبرات حزينة من عيون لامعة وأجسام هزيلة بسبب سوء التغذية، فكانت اوضاعهم كاشفة عن هول ما عانوا خلال أسابيعهم الاخيرة تحت سيطرة داعش، فمذابح سنجار تلتها سنوات من الاضطهاد والتلقين، لتأتي الحرب وتفاقم من ألم الانفصال عن عوائلهم. يروي سعدو، وهو صبي ضئيل البنية بشعر أسود مجعد، القتال الذي دار خلال العام 2017 في الرقة، عاصمة تنظيم داعش، حيث نفذ اثنان من أقرانه الايزيديين من تل كساب، هجمات انتحارية في الموصل، اتى التنظيم على ذكرهم عبر دعايته الاعلامية كأبطال.
يقول سعدو الذي فقد ابهامه إثر اصابته بشظية: “كانوا يعرضون علينا تلك المقاطع المصورة ويخبروننا بأن هؤلاء هم المسلمون الحقيقيون وأنهم سيدخلون الجنة”.
مثال آخر لكن أكثر ايلاما على التلقين الذي تلقوه، هو شقيقة سعدو، التي أبلغت عنه لدى محاولته الهرب، ليقضي على إثرها 10 أيام محتجزا داخل زنزانة صغيرة لدرجة لم يكن باستطاعته حتى الاستلقاء فيها. يوضح سعدو، “لقد تغيرت ايديولوجيتها”، محاولا التنفيس عن غضبه بإحدى ألعاب الحرب عبر الانترنت، وهو على اقتناع تام بأن داعش لم ينته بقوله: “لقد فقد السيطرة على الأرض، لكن معتقداته وأفكاره لا تزال باقية”. يصف مازن، (لا يبدو انه أكثر من 10 سنوات، لكنه يبلغ 15 عاما) بعيون حزينة وصوت ناعم، الجوع الذي كان رفيقا دائما له، وترافق التدريب العسكري العنيف الذي خضع له مع وجبات متقشفة. خلال وجوده في الباغوز، نام مازن تحت خيمة خفيفة برفقة صبي ايزيدي آخر، هربا من الضربات الجوية. “ اتمنى لو كانت تلك الخيمة كهذه” يقول وهو يجلس بجوار مدفأة داخل خيمة من الصوف، “ينهمر عليك المطر بحيث لا تتمكن من رؤية أي شيء”. “أتمنى ان يحصل لهم ما حصل للأيزيديين، لا أريد لهم أن يحاكموا، فعندما ارتكبوا المذابح، لم يخضعوهم للمحاكمة، فالعين بالعين والسن بالسن” يختتم مازن حديثه.