رزاق عداي
نقاشات وحوارات محتدمة دارت بين فلاسفة ومفكرين كبار في اعوام التسعينيات، التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، بين المفكر الأميركي الكبير جومسكي والالماني هابرماز والفرنسي دريدا وغيرهم، اذ لاحظ هؤلاء أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة تميزت بتوسع رقعة الحروب الاهلية وتفاقم في النزاعات العرقية والدينية، وحصلت مذابح ومجازر دموية رهيبة، وعلى مرأى العالم والمنظمات الدولية، التي لم تحرك ساكنا ازاء ما يحصل، بحجة مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، هذا المبدأ الذي تم وضعه في اتفاقية (وستفاليا)، التي أرست مبادئ العلاقات الدولية في لحظة تبلور الكيانات القومية في نهاية القرن الثامن عشر، وبموجب هذه الاتفاقية انبثق النظام الدولي آنذاك، فصار هذا المبدأ كمظلة حماية لكثير من الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية، وغطى الكثير من الجرائم الكبرى التي حدثت داخل البلدان، بعد الحرب العالمية الأولى تمَّ تدشين تجربة عصبة الأمم (النسخة الأولى لأول منظمة دولية في العالم)، التي تأسست في العام 1919 واستمرت حتى العام 1946 أدركت دول العالم ضرورة ترسيخ مجموعة من المبادئ، التي تحفظ الأمن والاستقرار بعد فشل أول تجربة لتجمع دولي معني بحفظ السلم والأمن الدوليين.
وشكلت مثل هذه المبادئ أولوية للقائمين على تأسيس هيئة الأمم المتحدة في العام 1945، حيث صارت من المبادئ الأساسية في ميثاق الأمم المتحدة، أيضاً نص ميثاق جامعة الدول العربية على مبدأ (المادة الثامنة) نفسه، والتي نصت على: “أن تحترم كل دولة من الدول المشاركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدولة، وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها”.
أغلب المقاربات التي نتجت عن هذه النقاشات والحورات بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وولوج العالم نظام القطب الواحد، اتفقت أغلب آراء الفلاسفة والمفكرين بشكل عام على ضرورة التدخل من قبل منظمات دولية وازنة، لمنع حصول المجاعات والقتل والنزوح والمذابح، مثلما حصل في دولة الصومال، التي تعرض شعبها إلى المجاعة والقتل في مطلع عقد التسعينيات، إلى الحد التي منعت الأطراف المتقاتلة وصول المساعدات الانسانية إلى الاهالي أو السيطرة على ما يصل من دعم دولي من قبل ميليشيات متقاتلة، فتدخلت الأمم المتحدة بمساعدة أمريكية وأوروبية، والأمر نفسه عندما حصلت حرب عرقية في صربيا راح ضحيتها الآلاف من المسلمين في البوسنة والهرسك، أجبرت الاتحاد الأوروبي على التدخل عسكرياً مباشراً لإيقاف مسلسل المجازر.
ما يحصل اليوم في السودان يشبه إلى حد بعيد الكثير من الحروب الاهلية العبثية، التي لا هدف لها سوى صراع على النفوذ والسلطة لجنرالين لا يرغبان في ايقاف ماكنة الحرب مهما بلغت الامور، تبقى مقاربات هؤلاء الفلاسفة هي أفضل من مبادئ قديمة لم تعد تناسب اشكالات جديدة تحتاج كل الممكنات، التي يمتلكها المجتمع الدولي، الذي بات اكثر ترابطاً بالمصالح، فالمهمة انسانية وليست بالضد من مبدأ التدخل في الشؤون الداخلية.