ماهر لطيف
لو سألت أي مواطن في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج عن رأيه في الثورة؟ سيُخبرك بأنها أداة لتخريب البلدان، وأنها مخططات عالمية ماسونية للهيمنة على مقدّرات الشعوب، ولن يكتفي بذلك، بل سيتّهم الشباب المشاركين فيها، بأنهم مجموعة من الخونة والعملاء والمخربين، رغم أن الثورة في عالمنا العربي، لم تحكم يوما واحدا منذ قيامها وأن من تولى السلطة، هم إما أصحاب الإسلام السياسي أو العسكريون، الذين انقلبوا على النظام الحاكم أو أصحاب الطبقة المستفيدة من النظام القديم أو من تعاملت معه كطبقة وسيطة بين المجتمع والدولة، وبالتالي هؤلاء هم المسؤولون وليس الثورة عن المشكلات، التي نعاني منها والظروف الصعبة التي وصلنا إليها.
ترسخت في عقلية المواطن العربي مقولة "ابعد عن الشر وغن له"، فهو يخاف من أي تغيير أو حتّى مجرّد بوادر للاحتجاج على السلطة القائمة ويرى فيها تهديدا لحياته الهانئة المستقرة، رغم أن الاحتجاج السلمي والثورة شكل من أشكال الدفاع عن حقوقه.
لقد نشأ المواطن المستقر ورضع من حليب الاستبداد واقتنع بأنّ الرئيس من حقه أن يفعل ما يحلو له دون مساءلة أو محاسبة، وأن الساسة سيظلمونه ويسرقونه في كل الأحوال، لذلك أنشأ عالمه الصغير المنعزل وتعلم كيف يتعايش مع الظلم والقهر سنينا طويلة، حتى اكتسب مناعة من الحرية والديمقراطية، راضيا بحصوله على الحد الأدنى من حقوقه التي يكفلها له الدستور.
تُشكّل ظاهرة المواطن المستقر قطاعا كبيرا من الشعوب التي عانت من الدكتاتورية، وأول من تطرق إليها بالشرح والتفصيل القاضي والمفكر الفرنسي إتيان دولابوسييه (1530/1563) في كتابه الشهير "العبودية المختارة مرافعة قوية ضد الطغيان"، أكد فيه أن المجتمع الذي يسقط في قبضة الدكتاتورية تنشأ فيه أجيال لا تحتاج الحرية، ولا تؤمن بها لأنها لم تعرفها قط، هذه الأجيال ستتفاجأ بالثورة ولن تفهمها، وغالبا ستتخذ منها موقفا عدائيا وسينحصر اهتمامها فقط في الدين ولقمة العيش وكرة القدم.
فالمواطن المستقر هو متدين بطبعه، لكنه لا يفهم الدين على أنه نُصرة للحق وكراهة للظلم، بل كمجموعة من الطقوس والشعائر التي لا ترتق للسلوك، ويحدث أن يغضب لمشاهدة امرأة عارية، ولكنه لا يحرك ساكنا دفاعا عن المقموعين والمظلومين، لذلك فهو مادة خام يتم بعد ذلك استغلالها في المذاهب والطوائف. وهذا المواطن لا يعبأ إطلاقا بحقوقه وحقوق أسرته ومجتمعه السياسية والاجتماعية، بل تراه منشغلا فقط بتربية أطفاله حسب موروثه فُيدرّسهم ويُشغّلهم ويُزوّجهم ومن ثمة ينصرف لقراءة كتبه الدينية، أما اهتمامه بكرة القدم وغيرها من أدوات الألعاب والتسلية، فهو شكل من أشكال التعويض عن أشياء كثيرة حُرم منها في حياته اليومية، وبالتالي فإن المسارح والألعاب والمهرجانات وأشياء أخرى من هذا القبيل كانت بمثابة الطُعم لإبقاء الشعوب في فخ العبودية حيث كان الحكام القدامى يستعملون هذه الوسائل كمغريات لتنويم رعاياهم تحت النير، فلا تبد هذه الشعوب اعتراضا على أوضاعها الاجتماعية، بقدر ما تكتف بالاستمتاع بلذة تافهة تمر أمام أعينها.
يبحث المواطن المستقر وخاصة العربي عن زعامة دينية أو سياسية يحتمي بها وتتحكم به في المقابل، كما يبحث عن بطل خارق أسطوري ليس فقط، لأنه ضعيف ولكن لأن هذا البطل سيُعفيه من الشأن العام، إنه يحتاج إلى أب حتى لو كان فاسدا وديكتاتوريا، ليمسك بزمام الدولة حتى يتفرغ هو لحياته الخاصة.
المواطن المستقر هو الذي يرى بأننا نحتاج إلى من يحكمنا بقبضة من حديد ونار حتى يشكمنا، لأننا شعب يقاد بالعصا ولا تصلح معه إلا الشدة.
وبعد فشل الثورات العربية، وعودة ديناميكية الحكم القديمة من جديد بالتطبيل والتهليل سرعان ما وجد المواطن التونسي والمصري والليبي والجزائري والعراقي والسوداني نفسه في أزمة مع موجة الغلاء، مقابل رفع الدول الدعم عن السلع الأساسية والتموينية وانقطاع الأدوية والبنزين انقطاع الكهرباء والمياه وتضاعف أسعارها، وانتشرت مشاهد الصفوف الطويلة والعنف والعراك من أجل الحصول على الخبز والسكر والقهوة والزيت، وبات معها المواطن عاجزا حتى عن تلبية الحاجيات الأساسية لأسرته، ليشعر في نهاية المطاف بأن مشروع حياته مهددا، وهو الآن غاضب من الرئيس والأحزاب التي تحكمه، ولكنه غضب مرتبط فقط بصعوبات حياته اليومية، ولو وجدت له الطبقة السياسية حلولا لمشكلاته، لأعاد انتخابها من جديد حتى لو كانت طبقة فاسدة متمعشة من المحاصصة والفساد وسيوافق على أية اجراءات قمعية.
هذه النوعية من المواطنة، تم تدجينها لتبقى سدّا اجتماعيا أمام أي محاولة إصلاحية لتثور أمام كل مصلح يشكل تهديدا أمام استقرارها، وهذا يذكرنا بعبودية الفراعنة والرومان وعبيد المزارع والمنازل في أمريكا، يقول عنهم إتيان دي لابوسييه "ليعلم هؤلاء أن ثمن سكوتهم على الاستبداد أو الطغيان، أفدح بكثير من عواقب الثورة ضدهما أو الندم والنسيان".
يجب على المواطن ليشعر بإنسانيته أن يخرج من ثوب سردية الضحية، التي يتقمصها وأن يخلع عباءة العبودية والانقياد الأعمى مع الجماعة للسلطة، ويرتدي عباءة المواطن الحر الفعال والمصلح، الذي يقود بنفسه وبإرادته التامة حركة تحرره للمطالبة بنظام إصلاحي شامل في كل المجالات.
ويجب ان يعلم أيضا أن المواطنة وحدها من تضمن حقه في العيش الكريم تحت شعار دولة المساواة والعدل والقانون، وأن لا وطن ولا قيادة دون مواطنين أحرار، فالمواطنة أساس كل إنسانية ووطن ووطنية لا سلطة الطائفة والمذهب والقبيلة والعشيرة.
كاتب من تونس