الدولة العراقية ومشروع التحوّل السياسي

آراء 2019/05/01
...

علي حسن الفواز

الحديث عن مشروع الدولة العراقية يعني الحديث عن المشروعية الفاعلة للتنمية، وللخدمات، وللبناء الاطاري الحقيقي للمؤسسات التي ترتبط بالقانون، وبقيم العدل والمساواة والحق والرفاهية، وبأهلية القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ينبغي أنْ تملك ارادتها في تخطيط وبناء هذا المشروع الدولتي. 
فبعد مرور أكثر من ستة عشر عاما على التغيير السياسي في العراق تكون الاسئلة التي تخصّ هذا التغيير واقعية ومشروعة، فهل تمكنت القوى الحاكمة في العراق من تبني برنامج وطني متكامل للتحوّل السياسي والاقتصادي؟ وهل كانت نهاية الاستبداد والحكم الشمولي فرصةً وعتبةً للتعاطي مع أفق دولة الحداثة، وعبر عقلنة آلية حكمها، ونظرتها لمفاهيم التنمية والتنوع والتعدد؟ وهل اقترنت هذه القيم بديناميات حقيقية لبناء تلك الدولة في سياق المؤسسات وبرامج التنمية؟
أحسب أنّ هذه  الاسئلة ضرورية لتوصيف الحالة العراقية، ولاثارة المزيد من الاسئلة حول ما يجري من تعقيدات، ومن صراعات، ومن ارباكات تبدو واضحة من خلال ضعف (البرنامج الوطني) ومن عدم التمكّن من تجاوز عقدة (الدولة الضعيفة) إذ يتمثل هذا الضعف عبر الارباك السياسي، والعجز الاقتصادي، والرثاثة الادارية، وضعف الاداء في السياسات الداخلية والخارجية..
صراحة المواجهة تقتضي نقد الظاهرة السياسية، ونقد الضعف المؤسسي، والدعوة الى اعادة قراءة الكثير من الملفات(المسكوت عنها) والتي مازالت للأسف خارج اطار  فاعلية القوى السياسية، مثلما هي خارج التشريع والحوار والمشاركة، لاسيما ما يتعلق بمواجهة التحديات الاقتصادية، والتي حوّلت الثروة النفطية الى مجال غير منضبط للاستهلاك والانفاق، مقابل الضعف في النظر الى آفاق استثمارية كبرى يمكن أن تعزز مسار التنمية، ومواجهة تحديات العجز والبطالة والاستيراد العشوائي، والضعف في البناء المؤسساتي-التعليمي والصحي والخدماتي- فضلا عن الضعف الخطير في مجال التفكير بالتخطيط المستقبلي، لاسيما أن العراق من البلدان ذات النمو السكاني السريع..
 
الأفق السياسي ..الأفق الثقافي
مشروعية أية دولة تظل رهينة بقدرتها على النجاح في تأمين رفاهية شعبها، وفي بناء اطر مؤسساتها الدستورية والخدماتية والقانونية، وهذا ما يجعل مفهوم المشروعية أمام حاجات متعاظمة، وحاجات لها علاقة بتوصيف الدولة، وبفاعليتها في مواجهة التحديات، وفي التعاطي مع المجتمع كمجال حيوي يتطلب وجود بنى حقيقية تستوعب تلك الحاجات، وتستوعي عملية التغيير والاشباع والاجاز..
الأفق السياسي العراقي مازال أفقا قلقا، وغير واضح الملامح، لاسيما مع تغوّل المحاصصة، وتضخم ظاهرة الفساد، والفشل في انجاز المشاريع الستراتيجية التي تخصّ التنمية، والاجتماع، وفي توظيف راشد للثروة النفطية في بناء دولة حديثة، قابلة للتطور، ومانحة حقيقية لفرص الاستثمار الكبرى، وبالاتجاه الذي يجعلها قادرة على معالجة ظواهر ضاغطة كالبطالة والعجز والاستدانة من البنك الدولي وغيرها من القيود التي تجعل الافق السياسي غائما..
الوقوف عند هذا الأفق يتطلب رؤية نقدية واضحة، ومعالجات حقيقية  تبدأ من فكرة النقد ذاتها، أي نقد الخلل البنيوي والمهني لمشروع الدولة وضعف تعبيره عن متطلبات وحاجات التقدّم والحداثة، وتأصيل قيم السيادة على اساس ماتحوزه هذه الدولة من قوة ومناعة، ومن قدرة وتمكين على صيانة مشروعها وبرامجها، وتبنيها سياسات داخلية وخارجية مهنية تعبّر عن جدّتها، وفاعليتها، وفي سياق ما يعزز مسار بنائها الوطني، ويجعلها محط احترام وتقدير وثقة دول العالم ومؤسساته الدولية..
الافق السياسي لم يعد معزولا عن الأفق الثقافي، إذ يمكن أنْ يعزز الثاني مسار الأول، ويعمّق هويته وسيرورته في اتجاه عقلانيته، وفي سيادة أنموذجه المعرفي، وقوته على مستوى تنشيط مؤسسات التعليم كمجال لتنشيط الثقافات العراقية، وعلى مستوى تقديم صورتها الواضحة في سياق المشاركة الفعالة في جدلية التكامل الحضاري مع الدول الاخرى، وفي سياق تجاوز المفارقات والصراعات التي تواجهها المنطقة ومحاورها المتعددة، فالقوة الثقافية هي المانعة للتداخل، وهي الفاعلية التي تسهم في تفعيل مشروع التنمية الثقافية كساند حقيقي للمشروع السياسي، في انفتاحه التاريخي، وفي تأمين مصادر قدرته على صياغة رؤية جديدة وواضحة للتحول الديمقراطي الذي يجري في العراق، ولإبعاد كلّ الشبهات التي ظلت تلاحق هذا التحول وتتهمه بكثير من الصفات، حدّ أن النموذج العراقي صار درسا اعلاميا واعلانيا مشوشا لتمثيل مشكلات التحول التي تحدث في بلدان عربية مجاورة..
إنّ النجاح الثقافي هو الأفق الذي ينبغي أن يكون مصدرا للتعبير عن الأفق السياسي، وساندا للقوى السياسية في اغناء فاعلية التحول السياسي، وفي تقديم الصورة الضد عن ما هو سائد، ولما تكرّس منه في الاعلام العربي المضلل، وعبر دعم كل التوجهات التي من شأنها دعم برامج ومشاريع  البناء الثقافي العقلاني، وفي تأمين نجاح مايحقق ابداعية هذا الافق، وما يدفع قيم التقدم والتحديث والتنمية لكي تكون هي العناوين الواضحة للسياسات وللمشاريع التي يجب أن تسعى الدولة العراقية الجديدة لانجازها ولتبنيها..