تفاقم أزمة الصحّة النفسيَّة للأفغانيات
ريك نواك
ترجمة: بهاء سلمان
أمضى الطبيب النفسي "شافي عظيم" معظم حياته المهنية في معالجة الصدمة الناجمة عن عقدين من القتال الذي مزّق المباني والأسر. لكنه على مدى الأشهر الماضية، امتلأ مستشفاه بالمرضى الذين يقولون إنهم يعانون من نوع مختلف من المعاناة، على حد قوله. ويعد هذا المستشفى المرفق الرئيس لتقديم الرعاية للصحة العقلية في العاصمة الافغانية كابول. فمع القيود التي فرضتها قيادة حركة طالبان والمشددة على تعليم وعمل النساء، يبدو أن هناك مخاوف متزايدة بشأن الصحة النفسية للفتيات وعموم النساء. ويشير الطبيب البالغ من العمر ستين عاما، إلى أن القيود الرسمية و"التغييرات المفاجئة" التي وضعتها السلطات ربما تمثل السبب الجذري للصدمة التي عانت منها معظم النساء اللواتي يطلبن الآن المساعدة في هذا المستشفى،
ويضيف قائلا: "إنّهن يخشينّ من عدم القدرة على العودة إلى العمل أو المدرسة، وهنّ منعزلات وكثير منهن مصابات بالاكتئاب."
وتبادل أخصائيو الصحة العقلية في خمسة مستشفيات ومراكز صحية أفغانية روايات متقاربة عن التحديات المتزايدة التي تواجهها المرأة في أفغانستان، ويقولون بأن العديد من النساء يتلقين العلاج والأدوية من العيادات الخارجية للمستشفيات.
وقد شجّع الأطباء بعض النساء على البحث عن فرص عمل صغيرة مرتبطة بالأنشطة القليلة التي لا يزال التسامح معها من قبل الحكومة.
وتقول إحدى العاملات في مجال الصحة النفسية: "مع اتساع دائرة التحديدات والقيود، حتى النساء اللواتي لم يتأثرّن بشكل مباشر لغاية الآن بالحظر يجدن وسط هذا الوضع الصعب."
وتقول مصادر رسمية في حركة طالبان إن حياة النساء قد تحسّنت في ظل حكمها الذي بدأ منذ عامين.
وأصدر الزعيم الأعلى لدولة أفغانستان الاسلامية "هيبة الله أخوندزاده" حظرا على إعادة الزواج القسري بعد فترة وجيزة من توليه السلطة، لكونها من العادات المنافية للشريعة الاسلامية، وتعهّد في رسالة صوتية حديثة بأنه يريد للمرأة الأفغانية أن تعيش حياة "مريحة" بعيدة عن ضغوط الرجل.
لكن العديد من النساء يروين قصة مختلفة، حيث قالت إمرأة شابة تبلغ من العمر 29 عاما تشارك في ورشة عمل فنية للفتيات في كابول، إنها تخشى اللحظات التي تقول فيها زميلاتها الدارسات إنّهن بدأن يشعرن بتحسن ظروفهن: "في هذه الأيام، الشعور بالتحسّن معناه واقعا أن أملهن بحياة أفضل يعود بالأوضاع إلى ما قبل سنتين قد انتهى،" كما تقول هذه المرأة، التي اشترطت عدم ذكر اسمها خشية الانتقام، شأنها شأن كل من تمت استضافته.
المقاومة والاستقالة
ويبدو أنّ الوضع النفسي السيئ للنساء في أفغانستان يمتد إلى فترة طويلة حتى إلى ما قبل وصول حركة طالبان إلى السلطة، فقد وجدت دراسة قديمة نشرتها إحدى المجلات المتخصصة بالطب النفسي قبل سقوط الحكومة المدنية في آب 2021 أن نحو نصف النساء الأفغانيات يعانين من ضائقة نفسية شديدة.
وتقول "فيفيان ماسفيتي"، إحدى المشاركات في تأليف الدراسة، إنه لم تصدر أية دراسة مماثلة منذ وصول حركة طالبان إلى السلطة، وبيّنت بأنه قد يكون من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت الظروف النفسية الناتجة عن القيود هي من يعكس حالة الضائقة المتزايدة على مستوى البلاد، مضيفة أن نهاية الحرب ربما تكون قد دفعت أيضا باتجاه تغييرات إيجابية.
لكن في المناطق الحضرية على وجه الخصوص، غالبا ما قوبلت رؤية حركة طالبان المتشددة لما يجب أن تبدو عليه حياة المرأة بالمعارضة والانتقاد، وازدادت حالات الاستقالة بين النساء، حيث حظرت الحكومة الجديدة التعليم الثانوي والجامعي للنساء، ومنعتهّن من العمل في المنظمات غير الحكومية أو وكالات الأمم المتحدة ضمن العديد من الوظائف، كما قيّدت وصولهن إلى المؤسسات العامة.
وكانت حركة طالبان قد أصدرت مؤخرا قرارا بإغلاق صالونات التجميل خلال فترة شهر، لتلغي بذلك واحدة من آخر الفرص المتاحة للمرأة للعمل والتواصل مع بقية النساء في الحياة العامة.
ولم يرد ممثلو وزارة الصحة الأفغانية، التي سمحت لصحيفة واشنطن بوست بزيارة العديد من المستشفيات، على الأسئلة، كما لم تنشر الوزارة بيانات عامة عن الأمراض النفسية بين النساء.
ولدى زيارة المستشفى الرئيس في مدينة هيرات الواقعة غرب أفغانستان، يقول رئيس قسم الصحة العقلية شفيق عمير إنه لم ير أية حالة لفتيات "يعانين من اضطرابات لأنّهن لم يستطعْن الذهاب إلى المدرسة"، مشيرا إلى أن العالم "يعتقد أن نساءنا ضعيفات، لكنهن قويات للغاية."
ومع ذلك فهذا لا يمنع وجود حالات مبعثرة هنا وهناك، فعلى بعد أمتار قليلة من الممر المزدحم في المستشفى، كان بعض الممرضين يعتنون بفتاة تبلغ من العمر 16 عاما لدى دخولها إلى المستشفى، وتتذكر والدتها كيف تدهورت الصحة النفسية لابنتها بعد أن منعها خطيبها البالغ من العمر ثمانين عاما من الذهاب إلى المدرسة.
وعندما قررت بدلا من ذلك تعليم الطلاب الأصغر سنا في مدرسة دينية، حظر خطيبها ذلك أيضا.
وتقول الأم إنه عندما تصاب ابنتها بالاكتئاب، فإنها تخبرها أنها ستعود ذات يوم إلى التدريس. "إنها الطريقة الوحيدة لتحفيزها هذه الأيام."
وهناك روايات مماثلة أكثر انتشارا مما تتحدث عنه إدارة المستشفى، وفقا لأحد الأطباء، الذي تحدّث بشرط عدم الكشف عن هويته لأنه غير مصرح له بالتحدث مع الصحفيين.
وقدر أن النساء اللائي يكافحن من أجل استيعاب القيود التي فرضتها حركة طالبان والمناخ الأكثر تشددا يمثلن نحو ثمانين بالمئة من المرضى غير المقيمين في المستشفى ضمن جناح الصحة النفسية.
وقال الطبيب على عجل، بينما كان مشرفه في مكان آخر: " نحن نقدم لهن وصفات الدواء أو العلاج، ومن ثم نطلب منهن الانصراف بعيدا عن الأنظار."
تلاشي الفرص
حاول الفتى "سيّد" البالغ من العمر ثمانية عشر عاما مساعدة أخواته على عدم الاستسلام منذ منّعهن من مواصلة تعليمهن الرسمي، ويقول أنه يقوم بتعليم شقيقته الصغرى في منزلهم الواقع وسط العاصمة كابول، مؤكدا بقائها عادة في غرفتها طوال اليوم، متصفّحة الكتب سعيا منها لمواكبة الدروس التي كانت ستتمكن من أخذها، لو لم يتم اغلاق المدارس.
يقول سيّد: "ومع ذلك، على الأقل لا يزال لديها أمل بالتقدم والنجاح."
أما أخته الكبرى، فهي تكافح لمواصلة تعليمها، حيث كانت على وشك الالتحاق بالجامعة عندما تم حظر وصول النساء إلى الجامعات العام الماضي، كما اشتركت في دورات لتعلم اللغة الانكليزية، غير أن تلك الدورات أغلقت أيضا أمام النساء مؤخرا.
"في كل مرة تحاول التمسك بشيء ما، يختفي،" يقول سيّد، مشيرا إلى أنه مع تدهور حياتها، طلبت المساعدة من أطباء الصحة النفسية عدة مرات خلال الأشهر الأخيرة.
ويقول علماء النفس الأفغان أنه ينبغي عليهم التوفيق بين الفجوة المتزايدة بين الواقع والتفاؤل الذي تعلّموا نقله.
وتقول إحدى مستشارات الصحة العقلية في هيرات عندما يأتيها عدد من المريضات بعمر صغير هذه الأيام: "لم أعد اعتمد على ما أقوله لهن سابقا، وإنما احاول ايجاد سبل علاج قريبة من واقع المريضة."
وتقول مستشارة أخرى في هيرات أن أفضل نهج هو حث النساء على نسيان فرص الماضي والتركيز على ما لا يزال ممكنا.
ومع منع النساء من دخول الصالات الرياضية المختلطة والعديد من الحدائق المختلطة، يشجّع بعض علماء النفس الفتيات على اللجوء إلى ورش العمل الفنية.
في أحد مراكز الأعمال في كابول، إلتقت أكثر من اثنتي عشرة إمرأة شابة في صباح أحد الأيام للمشاركة في الحوارات وكذلك الرسم والتعلّم.
في هذا الحي، الذي شهد أسوأ أيامه قبل وصول حركة طالبان إلى السلطة بسبب حجم ما تعرّض له السكان من هجمات إرهابية يومية، صارت العشرات من المعارض الفنية ملاذا للنساء خلال الأشهر الأخيرة.
اعتادت الكثير من الفتيات هنا أن ينضمن فرقا لركوب الدراجات أو ممارسة تمارين تتعلق بلعبة قتالية كورية في صالات مخصصة لفنون الدفاع عن النفس.
غير إن الوضع الآن قد تغير، إذ تم بيع الدراجات كما رحل العديد من أصدقائهن.
وتظهر اللوحات، التي ما زالت مثبتة على الجدران، أوراق الخريف وهي تتساقط من الأشجار، وبكاء للأطفال، ووجه إمرأة ملطخ بالدماء بعد هجوم إرهابي على مركز تعليمي قريب مختلط الجنس.
تتذكر امرأة تبلغ من العمر 29 عاما كيف ألحقها زوجها بإحدى ورش العمل بعد معاناتها من الاكتئاب خلال الأشهر الأخيرة، وتقول إنّها تشعر بالقلق من العلاج التقليدي في المستشفيات، وقد ترددت في طلب العلاج، غير إنها وجدت في الرسم علاجا فعالا.
يظهر رسمها المفضل طفلا يعاني من البرد ويحدّق في كوب ساخن، ليظهر حالة الاكتئاب ولكن القوة أيضا، كما تقول، وهي تمسك بقلمها بإحكام.
وتقول سحر البالغة من العمر 16 عاما، بلغة انكليزية لا تشوبها شائبة: "تعتقد طالبان أن بإمكانها تغييرنا، لكن لا يسعهم تغيير عقولنا." وأيّدت صديقتها هذا التوجه، قائلة: "نحن نريد تغيير العالم." ويخشى معلمو الفتاتين أن لا يستمر هذا الحماس طويلا، فقبل أشهر، أغلقت السلطات المعرض لعدة اسابيع، ومؤخرا ألغيت مشاركة الطلاب في مسابقة فنية قادمة لأن لوحاتهم تظهر وجوها عارية، وهو ما أخبرتهم طالبان أنه لم يعد مسموحا به.
وقال صاحب المعرض بصوت منخفض: "لم نخبر طلابنا بعد بتلك القيود."
صحيفة واشنطن بوست الاميركية