علي المرهج
أشار المفكر المغربي (علي أومليل) في كتابه (سؤال الثقافة)، لمفهوم «الثقافة العائقة» أو «الثقافة المعيقة»، ولم يفصل فيه كثيرًا، وأجد أن هذا المفهوم ينطبق كثيرًا على ثقافتنا العربية التي ما زالت تعيش عصر الشفاهية، وسحر القول وبيانيته وبلاغته، أكثر من البحث عن قيمة هذا القول من وجهة نظر عقلانية نقدية مسؤولة، لا تغيب الفرد في الجماعة، كما هو حاصل في ثقافتنا، يعيش الفرد فيها داخل مجاله الاجتماعي، وفق أطر فكرية مُقيدة لا تمنحه القدرة على التفكير الحر، ولا تثق بقدرته على ممارسة والوعي المسؤول، فتحده بحدود النزعة المحافظة السائدة والمهيمنة على التفكير المجتمعي في الغالب الأعم.
يخضع الفرد لشروط الجماعة، أو التفكير الجماعاتي، ويحسب على مكونه الأثني أو الديني أو المذهبي الذي نشأ فيه، حتى وإن أظهر أنه ضد كثير من توجهات هذا الفكر، الذي تغلب عليه النزعة الاتباعية في التفكير على وفق المثل الشعبي القائل (اعقلها برأس عالم واخرج منها سالمًا)، وكل تفكير لا يلتزم بهذا النمط من الوعي الاتباعي، يُشك في ولائه للمكون والدين والوطن.
هذا النوع من الثقافة نوع مُخدر يشبه وصف البعض للدين على أنه (أفيون الشعوب)، لأنها ثقافة ترتكن للسائد وترفض كل فكر جديد بحجة أنه يشككهم بما ورثوه من تقاليد وقيم موروثة، لكن الذي لم يُصرحوا به يقض مضاحع الفكر المحافظ التقليدي، الذي يمثل رمزيته وعاظ السلاطين.
إنه فكر ضد النزوع العقلاني النقدي، يعيش أبناؤها في هدوء وسكون لا يقبلون من يستنهض عقولهم.. من الصعب تصور تلاقي (الأصولية) والنزعة الراديكالية الاقصائية بالتصور المعروف عن الثقافة، بوصفها دعوة للفكر الحر ونزوعا لكسر قيود (الدوغمائية)، فكيف يمكن أن نصف فلان بأنه مثقف وهو لا يقبل (الآخر) المختلف؟!. حتى في التداول الشائع لمفردة (مثقف) في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إنما تحمل بين طياتها نزعة للرفض والتمرد على ما كلما هو سكوني وراكد.
ميّز علي الوردي بين المتعلم والمثقف، فالمتعلم هو من تعلم علمًا ما، ولكنه بقيّ أسير (قوقعته الاجتماعية)، بينما المثقف هو الذي تعلم شيئًا من كل شيء وتمكن من كسر هذه القوقعة أو (الأطر الفكرية) ليكشف لنا عقم التفكير الأحادي وخطل (المطابقة)، ليعمل على فهم (الإختلاف) بتوظيف لمصطلحي عبدالله إبراهيم.
هي ثقافة مستكينة لا قبل ولا قدرة ولا سعي لها على المنافسة مع ثقافات متقدمة..مجتمع يعيش الحاضر في الماضي، بتعبير فهمي جدعان أو مجتمع يعيش الحاضر وأعينه وآذانه مشدود للماضي، بتعبير محمد عابد الجابري، يعيش حاضره ويحمل ماضيه على ظهره ينوء بحمله. مجتمع يعيش على الرواية ويؤمن بها من دون فحص ودراية.
ترتكن للسائد وتدافع عنه.. لا صناعة فيها ولا زراعة حقيقة. كل ما فيها هو الاحتفاء بهذا الرمز أوالقائد السياسي يهتفون باسمه ليل نهار، وهم يعيشون وهم التفوق الكاذب، ولكنك لا تجد في مدنهم طرقًا ولا شوارع ولا أرصفة ولا هم قادرون على الإنتاج، وكل همهم الهتاف باسم الرمز الذي يعتقدون أنه قادم لهم من كوكب آخر، وإن سألتهم ما أنجز لكم هذا الرمز أو القائد؟، لأجابوك أنه نقلنا من الظلام إلى النور، وهم يعيشون بلا كهرباء والفساد يُزكم النفوس، ولا أعرف كيف ينتقل مجتمع من الظلمات للنور من دون فعل إصلاح حقيقي منظور، أو فكر تنويري له تأثير وحضور؟!. لا قيمة لما يُقال عنه أنه إصلاح لمجرد استبدال قائد رمز بقائد رمز آخر.. القيمة الحقيقية تكمن في الإنجاز وتحسين أحوال المجتمع من حال يُرثى له لحال أفضل، كما هو الحال في التنوير، فلا قيمة للدفاع عن النزعة العقلانية النقدية، إن يستتبعها تغيير في نمط التفكير السائد، كما حصل مع فلاسفة الأنوار، الذين جعلوا من رؤاهم التنويرية أسلوب تفكير يكسر النمط التقليدي في التفكير السابق (المحافظ). على قاعدة (من ثمارهم تعرفونهم) الإصلاح عمل وسعي حثيث للنجاح في الحياة، وتقديم ما هو أفضل، والتنوير فكر يستتبعه عمل، وكل قول في الإصلاح أو في التنوير لمجرد القول لا يؤتي ثماره، فإنه سيكون (هواء في شبك).. مهمة رجل السياسة وصانع القرار هي الإصلاح، لأنه كما أشرنا مفهوم يرتبط بسلوك عملي اجرائي، وقد يشمل ذلك بعض رجال الدين المصلحين القادرين على الإصلاح في مؤسساتهم الدينية وتغيير نمط التفكير الشعبي نحو فكر ديني تجديدي، بينما التنوير يرتبط بنزعة التفكير النقدي كما أشرنا، وهي من مهمات المثقف والأكاديمي الفاعل في المجال العام، لا الذي يعيش في (برجه العاجي) يحلم ببناء مدينة فاضلة، يتحرك فكره من النظرية إلى النظرية، بينما مهمة المفكر التنويري هي تغيير الفكر وحركته لتكون من النظرية إلى الواقع.