ثامر عباس
إن المسار الفاصل بين مفهومي (الكنية) و(الكينونة) مسار طويل وشاق ومتعرج، لن يتأتى لأي شخص تحمل صعابه وتجشم عنائه، إلا لذوي الإرادات الحرة والعقول المفتحة والبصيرة النافذة، لا سيما أنه يتطلب الكثير من التضحيات الذاتية بقدر ما يواجه العديد من التحديات الموضوعية، التي غالبا ما تكون باهظة ومكلفة. أي بمعنى أن استحالة الفاعل الاجتماعي من طور (التوحش) و(التبربر) إلى طور (التأنسن) و(التحضر)، يحتاج إلى قدر كبير من المجالدات العقلية والمكابدات النفسية على نحو دائم ومستمر، وهو ما يجعل عدد الذين يغامرون باختيار هذا المسار الشائك، فضلا عن قبولهم تبعات التحدي لقيمه الطهرية وأخلاقياته الصارمة ضئيل
ومحدود.
وللوقوف على مبلغ الصعاب وطبيعة التحديات المترتبة على خيار (الاستحالة الحضارية) للشخص الذي يبادر بدخول هذا المعترك الوجودي والاجتماعي والإنساني والأخلاقي، يستلزم الأمر توضيح ما نعنيه بمفهوم (الكنية) ونظيره مفهوم (الكينونة)، والإشارة من ثم إلى الفرق النوعي الذي يفصل بينهما ويترتب عليهما، وبالتالي يجعل عملية (الاستحالة) المقصودة ممكنة الحدوث. فالنسبة للمفهوم الأول (الكنية) فان المراد به هو أن تعيين (هوية) شخص ما والتعريف بماهيته لا يتأتى عبر الإحالة المباشرة إليه، باعتبار كونه موجودا بذاته، مثلما لن يتحصل ذلك إلا بالاعتماد على مصدر خارجي مضاف يكون بمثابة الدال إلى المدلول. أي بمعنى أن هذا الأخير لا ينتمي إلى أصل العناصر المكونة للشخصية المعنية، وليس له علاقة بخصائصها التكوينية؛ كأن يكون المصدر (أسري/ عائلي، أو قبلي/ عشائري، أو مذهبي/ طائفي، أو جهوي/ مناطقي، أو قومي/ اثني). ولعل من نماذج هذه الحالة ما تواضعت عليه أعرافنا وتقاليدنا الاجتماعية حيال التعريف بشخص ما أو الإشارة إليه عبر نعته بعبارة (أبو فلان) أو (فلان الفلاني)، بحيث إن هذه الإضافة التعريفية، هي التي تعين طبيعة الفرد المستهدف وتدلل على هويته، وليس تلك المقومات البنيوية، التي تتكون منها شخصيته وتتشكل عليها سيكولوجيته وتتمظهر فيها مواهبه.
أما بالنسبة للمفهوم الثاني (الكينونة) فهو ما يشتق من كيان الشخصية ذاتها دون الحاجة إلى إسناد خارجي مضاف، أي أنه يشير إلى أن ما يعيّن (هوية) الشخص هو مصدر ذاتي – داخلي، لا يشكل جزءا من كيان تلك الشخصية الموصوفة فحسب، وإنما يعد عنصرا جوهريا في عمليات تكوينها الوجودي وصيرورتها الحضارية كذلك. ولهذا فعندما يتخلى الشخص المعني عن (كنيته) المكتسبة اجتماعيا وعرفيا، في الحالة الأولى، لن يكون لهذا الأمر – في الغالب – تأثيرا على طبيعته، مثلما لن يقلل من قيمته الاعتبارية أو يبخس من شأنه الإنساني.
أما إذا حصل العكس، في الحالة الثانية، لسبب من الأسباب، وشعر بانخلاع (كينونته) الذاتية وتفكك (كيانه) الشخصي، فإن الأمور ستأخذ منحى خطيرا قد لا تقف عند حدّ الإحساس بضياع الوجود الاجتماعي وفقدان القيمة الاعتبارية للأنا فحسب، وإنما سيفضي كذلك إلى انعدام المعنى من الحياة الاجتماعية وتلاشي المغزى من المشاعر الإنسانية.
وبضوء ما تقدم، فان المجتمع الذي يقيّم أفراده ويفاضل جماعاته على أساس (كنيتهم) الرحمية/ الأسرية أو العصبية/ القبلية، بدلا من الاحتكام لمعيار (كينونتهم) الإنسانية والأخلاقية والعلمية، سيبقى يرسف في أغلال (الهمجية) و(البربرية) مهما اتخذ من إجراءات وبذل من محاولات وسن من تشريعات، وبالتالي فهو يدلل على كونه ما زال يعيش في أدنى مستويات التحضر وأحط مدارج التمدن، رغم بهارج (الحداثة) وطلاء (المدنية) التي يحاول عبرها ومن خلالها إخفاء هشاشته البنيوية ورثاثته الحضارية. ولعل ما يؤكد هذه الحالة/ الظاهرة مستوى التلازم والتخادم القائم ما بين مظاهر (التخلف) واستشرائها في المجتمع المعني من جهة، وبين تكريس العلاقات القائمة على الروابط الرحمية والقرابية والقبلية والجهوية، وترسيخ قيمها وتقاليدها وأعرافها وفقا”لديناميات المجايلة من جهة أخرى. أي بمعنى أنه كلما انخفضت مناسيب التقدم الفكري وتراجعت معدلات التطور الحضاري وتدهور الارتقاء العلمي على الصعيد الاجتماعي، كلما ارتفعت مؤشرات النكوص في الوعي والارتداد في السلوك على الصعيد الفردي، والعكس بالعكس.