مواقف إنسانيَّة نستخلصها من شهادة الإمام الحسين (ع)

آراء 2023/08/13
...

زهير كاظم عبود

ثلاثة مواقف مهمة تضمنتها مسيرة  الإمام الحسين (ع)، لا بد من الإشارة اليها باختصار، أول هذه المواقف تجلى بعد المفاوضات التي جرت بين جيش عبيد الله بن زياد (الجيش الاموي) وبين  الإمام، تركز مطلب قيادة جيش عبيد الله بن زياد على السماح للإمام واهل بيته وأصحابه العودة إلى المدينة بشرط، أن يبايع  الإمام الحاكم الأموي، وهذه المبايعة تتجلى بكلمة غير مكتوبة، تترتب على  الإمام أن يقولها ويتخلص من مواجهة غير عادلة ومحسومة، وكلمة المبايعة تعني الإقرار والقبول والنكول، تكون هذه الكلمة شفاها وينتهي كل شيء، ولأن للكلمة وزنا وقيمة عند الرجال حسمها  الإمام بكلمته الخالدة (إن مثلي لا يبايع مثله)،
 لم يكن موقف  الإمام الحسين مبنيا على أساس ردة الفعل أو غير محسوب النتائج، والرفض يعني المنازلة، وهي غير متكافئة وغير عادلة، لكنها مفروضة، وعبثا حاول  الإمام أن يمنح بعضا من أصحابه فرصة المراجعة، والتخلص من المواجهة معززا ثقته بهم، إلا أن الجميع كان ثابتا في موقفه، ومصرا على ألا تكون لهم بيعة ليزيد بن معاوية، فكانت المنازلة بين الثبات على الكلمة، التي تعني الثبات على الموقف والراي، وتعني أيضا القدرة على استيعاب النتائج، ومن يريد أن يستحضر الزمان والظروف التي تزامنت مع المواجهة، سيدرك بلا شك حجم الموقف الإنساني والتمسك بكلمة الحق الذي وقفه  الإمام الحسين بن علي (ع)، فتقدم مع أصحابه ليكونوا شهداء للثبات على الموقف متمسكين بكلمة صادقة تنبع من الضمير والوجدان مهما كان الثمن.
اما الموقف الثاني فيتمثل بموقف العباس بن علي الذي رافق المسيرة الحسينية ومعه أولاده وزوجته لبابة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ، وكان حينها قد بلغ الرابعة والعشرين، وله من التجارب في القتال ما يميزه ويجعله في مصاف القادة، وشارك في القتال مع والده في حروب متعددة، ورافقه أولاده كل من الفضل وعبيد الله والحسن والقاسم ، ومعه أيضا أخوته من أمه (فاطمة بنت حزام بن خالد الملقبة بأم البنين) أولاد علي بن ابي طالب كل من عبدالله وجعفر وعثمان، وحين قرر  الإمام الحسين القدوم إلى الكوفة كان العباس في طليعة المتقدمين معه، وحين تم زحف جيش عبيد الله بن زياد على مخيم الحسين وأهل بيته واصحابه، استقبلهم العباس وأرجعهم، وانصفت كتب التاريخ مواقفه الشجاعة وطوله المتميز بالإضافة إلى جماله، غير أن موقفه حين كلفه  الإمام الحسين، الذي اشتد به العطش وأهل بيته من النساء والأطفال، وكان جيش عبيد الله يسيطر على جرفي النهر، فهجم عليهم ومعه ثلاثون فارسا وتمكنوا من الاقتراب من الشريعة بالقتال، وملؤوا القرب وحملها العباس، دون أن تدنو شفاهه من الماء الذي يحمله بيديه، حتى وصل الحسين ولم يذكر حاجته الماسة لقليل من تلك المياه، وحين حل العاشر من محرم سلمه  الإمام الحسين الراية، وقاتل قتال الابطال حتى انهكته الجراح وتكاثرت عليه الجند فخر صريعا، فحز حرمله بن الكاهل رأسه مع الرؤوس، التي تم فصلها، وبقي حتى لحظة استشهاده لم يذق طعم الماء.
والموقف الثالث الذي وقفته العقيلة زينب (ع)، وهو موقف لا يمكن المرور عليه بسرعة، وهي تصاحب  الإمام الحسين في مسيرته وتصطحب معها ولديها، وكان أول مواقفها حين حسم أمر المواجهة، وكان  الإمام الحسين يستشيرها ويركن إلى أحكامها وعقليتها الفريدة، كانت زينب (ع) قائدة حقيقية في تلك المواجهة، وبالرغم من كل تلك الظروف والمتطلبات التي حاصرتهم ومعهم النساء والأطفال، كانت لا تدع أحدا منهم يظهر موقفا متخاذلا أو مطلبا أمام معسكر الأعداء، مثلت القدرة والمكانة التي تميزت بها في المدينة، وحين حلّت بأرض العراق أو بعد العاشر من محرم والتوجه إلى الشام، وطيلة أيام الاستعداد للمواجهة كانت تبث القوة وتدفع للتمسك بكلمة الحق والثبات على المواجهة، وحين ودعها  الإمام في نهار العاشر من محرم زادته ثباتا ورسوخا في موقفه ازاء عدم اعطاء المبايعة ليزيد بن معاوية، والتمسك على طريق الحق مهما كان الثمن، وكانت تدرك انها ستقدم كل رجال البيت العلوي شهداء في هذه المعركة، وتذكر كتب التاريخ انها لم يرها أحد دامعة أو مولولة أو لاطمة، ومؤكد أنها كانت تبكي سرا لفقدانها كل هذا الجمع، غير أن كلمتها الخالدة ،حين وقفت على جثمان شقيقها وقد مزقته السيوف والخناجر، رفعت يديها إلى السماء وقالت (اللهم تقبل منه هذا القربان واثبته على عمله))، وزاد موقفها شجاعة وثباتا وصبرا حين واجهت عبيد الله بن زياد ردت على كلماته التي يشمت بها فأسكتته، ولما وصلت إلى الشام وهي بهذا الحال ومعها السبايا ورؤوس أخوتها وأولادها مرفوعة على الرماح، واجهت يزيد بن معاوية، تلك المواجهة التي أجمعت عليها كتب التاريخ، لتخرج من القصر الاموي رافعة رأسها وهي افرغت كل ما بقلبها من الايمان والصبر ضد التشفي والانتقام، ليسجل التاريخ لها مواقف تزيد من الثبات على المبادئ وانتصار القيم، فقد هزت العرش الاموي وزعزعت أركان الحكم الاموي. تلك المواقف الإنسانية لا يمكن أن تكون عابرة وليدة ظروفها وزمانها، لأنها واكبت التطور الإنساني واضحت صورة إنسانية مشرفة ومتجددة.