التطبيق الحرفي أو الشكلي للقانون

آراء 2023/08/13
...






 فارس حامد عبد الكريم*

القانون عـِلم عقلي، حسب إتجاه واسع من فقهاء القانون، يتضمن مجموعة من المبادئ المنسقة تنسيقا منطقيا، ويترتب عليها قواعد قانونية لا يتيسر الوصول اليها غالباً إلا من خلال عمليات معقدة كالتحليل والتكييف
والاستنباط.
وقد لعب القياس المنطقي دوراً تاريخياً مهما في تطور القانون، بينما يرى فقهاء محدثين أن القانون علـم وفـن وأنه لا يمكن الوصول لأحكام جديدة تساير التطور الإنساني عن طريق توحيد الحلول وفقاً للنموذج المنطقي.
وكان ارسطو قد عبر عن ذلك حين وضع أسس علم المنطق، عندما أقرَّ بصعوبة تطبيق التشريعات المجردة على الحالات الواقعية، حينما أخذ يتصدى للحالات المستعصية التي يؤدي تطبيق القانون عليها إلى نتائج ظالمة، فنبه إلى مصحح لجمود العدل القانوني الا وهو العدل الخاص أو الإنصاف بغية إصلاح ما هو ظالم وغير معقول.
تعود جذور علم المنطق إلى ارسطو، حيث اعتبره فناً وأداةً في خدمة المعرفة، ويعد استخدام القياس المنطقي من أهم تعليمات مدرسة الشرح على المتون، حيث رأت هذه المدرسة في تقنين نابليون المدني أنه قد جمع فأوعى وأحاط بكل شيء، فهو بناء منطقي متكامل، وما على القاضي إلا أن يلجأ للقياس المنطقي لتطبيقه، فالتفسير حسبهم، ما هو إلا عمل منطقي محض ينطوي على معرفة مدى انطباق الوقائع على الأحكام القانونية، وهذا هو السؤال الوحيد للقاضي، سواء كانت النتيجة عادلة أو غير عادلة، فالقاضي ينبغي أن يتقيد
بالنص.
وهكذا استبعد عامل التقدير القضائي كعامل من عوامل الحكم القضائي، وعلى ذات النهج سارت الوضعية القانونية والمدرسة التاريخية. وفي وقت لاحق أعلن الفقيه كلسن زعيم الوضعية القانونية ان (لا شأن للقانون بعلم الحياة)، وان نظرية القانون يجب أن تتناول القانون كما هو كائن لا كما ينبغي أن يكون، واستبعد فكرة العدالة من مجال القانون، بداعي أن الحكم على القانون بالعدالة أو عدم العدالة، يتطلب معايير لا تخضع للمعرفة العلمية ودعا إلى نظرية محضة في القانون، ومن ثم هاجم نظرية القانون الطبيعي، واصفاً إياها بأنها حصيلة استنتاج غير صحيح، فالقانون حسبهم يجب ألا يخضع لأي تقويم أخلاقي، فالقاعدة القانونية هي أمر يصدر من صاحب سلطة إلى المكلفين مقترناً بجزاء، وهذه القاعدة تنفصل بمجرد سَنها عن الأخلاق والعدالة، وإن كانا مصدر مادتها الأولية، دون حاجة للتحقق مما إذا كان القانون متفقاً مع حسن الأخلاق وروح العدالة أو غير متفق معهما،كما أن القانون لا يمكن أن يحتوي على ثغرات، ولا يمكن أن يتمتع القاضي بأية سلطات تقديرية. أدى كل ذلك، وخاصة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلى نتائج مجحفة، فحق الملكية مطلق ومن يستخدمه لا يكون مسيئا تحت أية ظروف، وما بني على باطل فهو باطل وان منطق البطلان، فعقد الزواج الباطل لا يرتب أية حقوق للزوجة أو الأولاد، وعقد العمل الباطل يلقي العامل في الشارع دون أية حقوق، ولا مسؤولية بلا خطأ ولو مات العامل وهو يقدم خدماته لصاحب العمل، ذلك أن المنطق يُبرز الشكل ويُغفل الواقع. ومن تطبيقات الاتجاهات الشكلية في تفسير القانون، نورد الواقعتين التاليتين:قضية ارنولد الطحان: عرضت هذه القضية على المحكمة العليا في بروسيا سنة 1779، وتتلخص وقائعها، بان ارنولد كان رجلا من عامة الشعب، يدير طاحونة على سفح تل، ويقتات من وارداتها هو وعائلته، مستعيناً بالمياه المنحدرة من أرض في أعلى التل مملوكة لإقطاعي، فرأى الإقطاعي أن يحفر بركة داخل أرضه لتربية الأسماك، فاحتجز فيها مياه الجدول، فتوقفت الطاحونة عن العمل وساءت أحوال ارنولد، فرفع دعوى على جاره لمنعه من حجز الماء، لكن الإقطاعي تعنت زاعماً انه يستخدم ملكه، وأيدته المحكمة العليا، رافضة دعوى الطحان، قائلة إن مالك الأرض يحوز ما بداخلها من ماء، ومن يستعمل حقه لا يعتبر مخطئا ولا يكون بالنتيجة قد اضر بالغير.قضية الرئيس روزفلت: أصدرت بعض الولايات الأمريكية تشريعات إصلاحية لحماية العمال من تحكم أصحاب رؤوس الأموال، الذين كانوا يفرضون عليهم شروطا مجحفة، مقابل أجور بائسة في ظل أوضاع عمل مزرية، فأصرت المحكمة الأمريكية العليا على اعتبار تلك التشريعات غير دستورية بدعوى مخالفتها لمبدأ حرية التعاقد (العقد شريعة المتعاقدين)، ولما اشتدت الأزمة الاقتصادية العالمية منذ سنة 1929 إلى سنة 1932، وكانت شديدة الوطأة على عامة المجتمع، لجأ الرئيس روزفلت إلى استصدار عدة قوانين لتنفيذ بعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن قضاة المحكمة العليا حكموا بعدم دستورية هذه القوانين، فضاق روزفلت ذرعا بأحكام أولئك القضاة، ونصحهم بمسايرة روح العصر، والتف الشعب الأمريكي حول روزفلت داعما موقفه الإصلاحي، ولجأ روزفلت إلى تهديدهم بإعادة تشكل المحكمة، اذا استمروا في تعنتهم، بينما سَخر أصحاب رؤوس الأموال إمكانياتهم لمهاجمته في الصحف وأتهموه بالاستبداد ومخالفة أسس الحياة الديمقراطية، إلا أن المحكمة اضطرت أخيراً إلى أن تتراجع عن أحكامها وقضت بدستورية قوانين الإصلاح.
فكان القضاء الأمريكي سببا في تأخر الإصلاح الاجتماعي في أمريكا قرابة ثلث قرن من الزمان. ومن الجدير بالذكر أن قانون حمورابي كان قد اعتمد مفهوم السبب الأجنبي، الذي يعفي المدين من تنفيذ التزامه، فالمادة (48) منه تقرر إعفاء المزارع الذي يهلك زرعه بفعل الفيضان من تقديم حبوب إلى دائنه في ذلك العام ويعفى من الفوائد الخاصة بتلك السنة.  

*النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية.