اريكا بينكي
ترجمة: فجر محمد
توشك فنلندا أن تصبح أول دولة تقوم بدفن قضبان الوقود النووي المستهلك في أعماق الأرض على المدى البعيد. طيلة العشرين عاماً الماضية تم العمل على حفر حفرة عميقة وضخمة في فنلندا. تقع هذه الحفرة على عمق 450 مترا وسط حجر صلد وقوي في جزيرة أولكيلوتو الواقعة جنوب غرب البلاد، وهي أول موقع تخزين دائم للوقود النووي المستهلك على مستوى العالم. تصطف على جانبي الطريق المتعرج للحفرة أشجار صنوبر ممتدة عاليا إلى السماء. ومع مرور خمسة أشهر من الشتاء عادت الطبيعة إلى الحياة في هذا المكان. فالأرض مغطاة بسجادة من الزهور الصفراء الصغيرة والجو ممتلئ بتغريد العصافير. يكاد يكون مكانا جميلا للغاية بالنسبة لموقع صناعي كبير.
يطلق على الحفرة اسم " اونكالو"؛ أي الحفرة الضخمة باللغة الفنلندية، وهي موطن لثلاث مفاعلات نووية، متجاورة على شاطئ البحر. وتم إطلاق الثالث هذا العام، ليصبح أول مفاعل جديد يوفر الطاقة في أوروبا الغربية منذ 15 عاما. تنتج هذه المفاعلات، إلى جانب مفاعلين آخرين في منطقة (لوفي آسا) على الساحل الجنوبي للبلاد، 33 بالمئة من كهرباء
فنلندا.
وهكذا وعلى بعد مسافة قريبة من مفاعلات أولكيلوتو، تبرز معالم أول مرفق جيولوجي في العالم سينجز قريبا للتخلص من الوقود النووي المستهلك.
تقول أوراق المشروع أن كلفة بناء هذا المرفق مليار يورو ويتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في غضون عامين تقريبا. وقد أشاد الكثيرون بهذا المرفق بوصفه عاملا يغير قواعد اللعبة بما في ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وعلق رافائيل ماريانو غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، اثناء زيارته للموقع عام 2020 بالقول: "كان الجميع على علم بفكرة وجود مستودع جيولوجي للنفايات النووية المشعة عالية المستوى، لكن المدهش أن فنلندا
نفذتها ".
تبحث دول أخرى كبريطانيا والولايات المتحدة والسويد وفرنسا وكندا عن حل مماثل، بحسب "أريث لو"، أستاذ الكيمياء الإشعاعية في جامعة هلسنكي الذي أضاف بأن فنلندا تسبق الجميع بنحو عقد زمني على الأقل في هذا المجال.
تم تصميم حفرة أونكالو لتخزين النفايات النووية عالية المستوى التي يمكن أن تظل مشعة لفترة زمنية طويلة جدا. لكنه أثار بالفعل مناقشات حول احتمالات حدوث خطأ ما. فهل وجدت فنلندا حقا الحل للنفايات النووية، وهل يمكن لأي شخص أن يضمن أنها ستظل آمنة على مدى المستقبل البعيد؟
توفر الطاقة النووية عشرة بالمئة تقريبا من كهرباء العالم، نظرا لأن هذه الطاقة قليلة الكاربون، وينظر إليها بوصفها لاعبا مهما لمكافحة تغير المناخ. لكنها ظلت أيضا مثيرة للجدل في العديد من البلدان بسبب تكلفتها العالية وطول فترات تشييدها، فضلا عن مخاوف تتعلق بسلامة المفاعلات النووية وما يمكن عمله بخصوص نفاياتها.
ومع ذلك، فإن دولا كالولايات المتحدة وبريطانيا تقوم ببناء مفاعلات جديدة أو تحسين الموجودة منها لزيادة حجم الطاقة المتوقعة منها، فيما تخطط دول أخرى، كالهند والصين وروسيا، لتوسعات ضخمة.
سلامة المصانع
تظل السجالات مفتوحة حول سلامة هذه المصانع ذاتها، ولكن يجب إيجاد حل للكميات الهائلة من الوقود المستهلك والنفايات المشعة المتراكمة التي لا تزال تشكل خطورة على البيئة وصحة الإنسان لمئات الآلاف من السنين القادمة. إذ يجب الاحتفاظ بهذه النفايات بعيدا عن الناس وعزلها عن البيئة لفترة زمنية بعيدة جدا. ولهذا جعلت هذه المشكلة مشكلة الإدارة الآمنة للنفايات المشعة واحدة من أكبر مشكلات الطاقة
النووية.
وتتحدث الوكالة عن وجود 260 ألف طن من الوقود النووي المستهلك في مخازن مؤقتة لدى جميع أنحاء العالم منذ العام 2016، معظمها في مواقع المفاعلات. وهناك نحو 70 بالمئة من الوقود المستهلك عالميا في أحواض التخزين، والباقي تحتضنه حاويات خرسانية وفولاذية تسمى البراميل الجافة.
يقول لويس بلاكبيرن، المحاضر في المواد النووية في جامعة شيفيلد البريطانية: "لقد استفدنا جميعا من الطاقة النووية لأكثر من 60 عاما، وهي مسؤولية جيلنا من العلماء والمهندسين لخوض التحدي لأجل التخلص من النفايات، بدلا من تركها للاجيال المقبلة".
ظل العلماء يتصارعون مع كيفية التخلص من النفايات النووية عالية المستوى طيلة عقود. ويعد الوقود المستهلك أحد أصعب أنواع النفايات التي يجب إدارتها نظرا لخطورتها العالية.
يرى بلاكبيرن ان الوقود النووي المستهلك ينتج مستوى إشعاع يمكن أن يعطي جرعة قاتلة لشخص قريب منه، موضحا أن الاجماع العلمي على أن التخلص الجيولوجي هو النهج الأكثر جدوى للوقود النووي المستهلك. (يقصد بالتخلص الجيولوجي عزل النفايات المشعة بعمق داخل حجم صخري مناسب لضمان عدم وصول أي كميات ضارة من النشاط الإشعاعي إلى البيئة السطحية- المترجمة) لمئات الآلاف من السنين في مستودعات مصممة خصيصا لهذا الغرض مثل أونكالو،
مع تكوين صخري مستقر.
خلصت هيئة الأمان الإشعاعي والنووي الفنلندية إلى أن خصائص حجر الأساس لاونكالو ملائمة لضمان سلامة التخلص النهائي من الوقود النووي المستهلك.
صخور صلدة
اشار أنتي جوتسن، الجيولوجي الرئيسي في (شركة بوسيفا الفنلندية للتتخلص من النفايات المشعة وهي التي أسست موقع اونكالو) أن هذا الموقع حاله كحال بقية البلاد مستقر جيولوجيا للغاية وإن مخاطر حدوث الزلازل فيه منخفضة جدا. لافتا إلى أن تربة منطقة الحفرة مكونة من صخور ميغماتيت التي تضم مزيجا من نوعين مختلفين من الصخور في صخرة واحدة. ويقدر عمرها بنحو ملياري عام، وهي صلدة جدا." وهذا الأمر مهم لأن الصخور هي أحد حواجز الأمان في فكرة التخلص من النفايات. وينوه جوتسن إلى اهمية أن يكون الموقع مستقرا بدرجة كافية للسماح ببناء أنفاق وحفر عميقة تحت الأرض.
وبحسب الباحثين فأن قرب أونكالو من محطة طاقة نووية موجودة كان ذا صلة أيضا بقرار تشييده هناك. ويذكر أن الحكومة الفنلندية وافقت على خطط بناء منشأة (اونكالو) عام 2000، لأنه كان من بين عدة خيارات مدروسة للتخلص العميق من النفايات داخل الصخور كأفضل احتمال واكثر واقعية لعزل النفايات عن المحيط الحيوي والبشري.
عن موقع بي بي سي