قدر العراق أن يكون ديمقراطيًا

آراء 2023/08/14
...

  رعد أطياف

بين الحين والآخر نسمع عن {محاسن الاستبداد} مقارنة {بمساوئ} الديمقراطية. ولما كانت الديمقراطية العدو التاريخي للاستبداد، والمركزية، ودولة الرجل الواحد، كره أصدقاء الديكتاتور فكرة الديمقراطية، وراحوا يستدلون بقوة حجتهم القائمة على فكرة الاستبداد بوصفه {صمام أمان}. وبما أن الديمقراطية العراقية شهدت الكثير من العثرات: الإرهاب، والمحاصصة، والفساد، ومشكلات اقتصادية، وإدارية، وتضخّم الوظائف في مؤسسات الدولة.

والنتيجة دولة مترهلة من كل النواحي، إذن، فالديمقراطية رذيلة سياسية، والاستبداد فضيلة! وبهذا المنطق المشبوه والأحمق أقام أصدقاء الديكتاتور استدلالاتهم المُشَوَّهَة والعقيمة. صحيح أن واقع الأمور يساعد على مثل هذه الترّهات، بيد أنه لا يعني أن نسوقه كمقدمة لهذه المغالطات؛ فالديمقراطية شيء، وواقع الأمور شيء آخر، بمعنى لا تنسحب هذه المشكلات على فكرة الديمقراطية. إن الديمقراطية، أولاً وبالذات، بديلاً عن الاستبداد، هذه هي فكرتها الجوهرية، أما ما يحاول البعض جعلها "نظرية كل شيء" فهم، مخطئون، ومدفوعون بأشواق العبيد إلى جلادهم. المهم في الأمر، أن قيام المؤسسات، وخلق جهاز بيروقراطي، وقوة اقتصادية لا ينحصر في الدولة الديمقراطية فحسب. بعبارة أخرى: أن القوى الأربع: السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية (القوة الناعمة)، يمكنها أن توجد في دولة ديكتاتورية، كألمانيا الهتلرية مثلاً، أو يمكن أن تكون الدولة قوة اقتصادية عظمى لكنها ليست ديمقراطية، الصين أنموذجاً، ويمكنها أن تتمتع بجهاز بيروقراطي عظيم، بيد أنها مقطوعة الصلة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، والصين أنموذجنا مرة أخرى. إن وجود جهاز بيروقراطي محترف، مثلما يذكّرنا التاريخ بالإمبراطورية الصينية، والرومانية، والعثمانية، يمكن أن يوجد في ظل دولة ذات نظام ديكتاتوري. إذا كان كل ما ذكرنا يمكن أن يوجد في ظل دولة ليست بالضرورة أن تكون ديمقراطية، فما الجدوى، إذن، من وجود نظام سياسي ديمقراطي؟ الإشكالية الجوهرية في الأنظمة الشمولية أنها تقع فريسة الديكتاتور، بمعنى أن تُختَزَل كل مؤسسات الدولة بيد هذا الكائن المجنون، فيبدأ النخر من الداخل، ويكون الديكتاتور كالأرضة يقضم ما تبقى من أرث مؤسساتي بالتدريج، ثم تأتي لحظة السقوط المدويّة، مثلما يخبرنا التاريخ عن حماقات هتلر واندفاعه العدواني، فحطم دولة عظيمة الأركان مثل ألمانيا، ومثلما حدث في الاتحاد السوفيتي بنظامه الشمولي المقبض، فراحت هذه الإمبراطورية المرعبة تتهاوى بالتدريج إلى أن حدثت لحظة الانفجار المدوية، باستثناء الصين التي تعتمد على تركة حضارية عظيمة وقدرة توفيقية هائلة بين محاسن الغرب وأرثها الحضاري، فخرجت بمزيج عجيب، فهي بحق الطريقة الصينية المتفردة. المهم في الأمر، واستناداً إلى ما ذكرناه يبقى شبح الديكتاتورية هو الكابوس، الذي يمكنه أن يطيح بكل منجز مؤسساتي، ونظام البعث ليس ببعيد؛ حيث استطاع صدام حسين بحماقاته التي شهد لها القاصي والداني، أن يحطم أرث الدولة العراقية بالتدريج، لتكون الفترة الفاصلة ما بين النظام الملكي حتى لحظة 1979 المشؤومة هي لحظة تدمير الأرث الإداري للدولة العراقية الحديثة. أكثر من ثلاثة عقود كان فيها صدام يمارس لعبته الأثيرة: القضم التدريجي وما زلنا نعاني آثارها التدميرية حتى هذه اللحظة. بالرغم من كل مأساة الفساد السياسي والإداري التي نشهدها الآن، لكن هذا لا يمنعنا من التساؤل حول هذا الشوق الذي يبديه بعض الناس إلى النظام الديكتاتوري. لا يوجد جواب جاهز بقدر ما تحضرني قصة عايشتها أيام الخدمة الإلزامية يوم كنت مُعاقباً في سجن الوحدة العسكرية. كان هناك جندي كلما غادر يرجع مرة أخرى باختياره! سألته: لماذا أنت دائم الحضور في هذه الزنزانة العفنة؟ قال: لا استطيع العيش في الخارج، السجن هو بيتي المفضل.