يبدو الشاعر علي محمود خضير في مجموعتهِ الشعرية الاخيرة (سليل الغيمة) الصادرة عن منشورات باصورا في البصرة عام 2015 ،هادئاً بعد أن هدأتْ فورة الاشتباكات الوجودية في مرجلهِ الحياتي وأزداد يقيناً بفردية الانسان وعزلتهِ وهشاشة وجودهِ الانساني وتسرّب الحياة من بين يديهِ مثلما تتسرّب حفنة رمل .وفيما كانت مجموعته الشعرية الاولى “الحالم يستيقظ”عام 2011 قد حفلتْ بالمواجهة والتحديات ، والوقوف بوجه التساؤلات ،فإنهُ في “سليل الغيمة” يبدو وقد خَبَرَ الحياة وتجربتهِ فيها وانتهى الى الخلاصات والمعنى العام ، وأدركَ تهشّم الامنيات وانطفاء المباهج ، وإنْ كُنا في مجموعتهِ الاخيرة لا نعدمُ وجود البكائيات التي توقَّف عندها طويلاً في “الحالم يستيقظ” حيث كان البكاء تعبيراً عن حالة من حالات الانكسار والخيبة والخسران، فقد انبثّتْ في “سليل الغيمة” بعض شذراتها [ لم يكُ يبكي/ نفدتْ دُموعُهُ/لقد ذرفها في الاتجاهات كلها] والتي جاءتْ في القصيدة الاولى (تسجيل خروج) من المجموعة و[ سأبكي / مِنْ أجل مَنْ غابوا/مِن اجل مَن سحقهم الانتظار.... ] قصيدة
(مساجلة).
ومن خلال هذا كلِّه يمكنُ أنْ نرى الشاعر وهو يعبرُ جسر الحياة تائهاً ومنفرداً ، ومتمهلاً وقد احتشدتْ في رأسهِ المعاني الكبيرة والانشغالات الشعرية ، ومن بين هذه تبرز ثيمة رئيسة في القصائد الـ44 التي ضمَّتْها المجموعة وهي الشعور بالوحدة والاغتراب حيث الـ(أنا) الغريبة الوحيدة وهي تبحث عن ذاتها الضائعة أو تبحث عن وظيفة حياتية في ظل عطالة الحياة نفسها، تبحث عن أداءٍ وجودي مفقود فيعُّولُ ذلك الفرد على البحث عن معنى ذلك الوجود المفقود ( نحنُ هذه الاجزاء التي نبحثُ
عنها).
وتحت تأثير هذه الاجواء النفسية الضاغطة والمأزق الحياتي الصعب ومحاولة إيجاد منفذ للخروج منه والتخلص من تبعاتهِ ،يأتي صوت الشاعر- الفرد هامساً بنبرة خافتة أقرب مايكون الى الصوت المبحوح نتيجة ً لثقل الحياة نفسها ؛ ليس هذا فحسب بل حتى التعبير يجيء خفيضاً ناعماً أشبه بذلك المسحوق الذي طحنتهُ رحى الايام ( كُنْ غير موجود/
لتنجو).
وبين هذه الثنائية القائمة على الشعور بالوحدة والتعبير الخافت عنها تواجدتْ تعبيرات الشاعر عن هذه الثنائية من مثل (وحيداً أعرضُ الماضي / بسوق لا يمرُّ به أحد ) قصيدة (كآبة ثالثة) أو ( رتجفاً / كأني غصن/ اُريدَ له / أن يكون وحيداً / في العاصفة ) قصيدة(رمادي فاتح) أو ( أنا اليوم كلمة سر مفقودة/ لا درب / لا دليل ) قصيدة ( كلمة سر).
لكن قصيدة (كمن يتذكر فجأة بأنه وحيد ) تُمّثلُ واحدة من تجليات ذلك الشعور باعتبارها عينّة نموذجية لفداحة ذلك المعنى ومرارة التعبير عنه حيث يكتب الشاعر في المقطع الاول :( كمن يقف على قبر عزيز وحيداً/ كمن يتجرّع كأس مرارته وحيداً /كمن يغص برؤيا / ثم وحيداً يقضي الليل).
السمة الاسلوبية البارزة في قصائد (سليل الغيمة) اعتماد القصيدة النثرية القصيرة مع ما لهذا الاسلوب من خصائص لا بُدَّ من توافرها في هذا النوع من القصائد حتى تحافظ على وحدتها وتوازنها والوصول الى مبتغاها مثل الايجاز والكثافة وضخ الدلالة والايحاء بالمعنى ، وقد حافظ (علي محمود خضير) على هذا المعمار الفني في قصائدهِ القصيرة المُكثّفة ، والتي تتناسب نفسياً مع الايقاع الحياتي اللاهث، والانفاس المُتقّطعة للافكار والمعاني العامة التي اختارها كأدوات في مشغلهِ
الشعري.
وداخل ذلك المعمار الفني في أسلوب القصيدة القصيرة يعتمدُ الشاعر تقنية السرد القصصي في العديد من تلك القصائد وهو ملمح عام اتسمتْ به قصائد الشاعر في كلا المجموعتين (الحالم يستيقظ) و( سليل الغيمة) وإن كانتْ سمة القصر والكثافة واعتماد صيغة البنية القصصية أكثر حضوراً وأكبر مساحة ً في (سليل الغيمة) وتقوم كيفية الإفادة من التقنية السردية على انتقاء مقطع عرضي من الحياة اليومية ثم تجزئته الى وحدات بنائية صغيرة وهي أشبه ما تكون برسم المشهد الحياتي العام ثم التركيز على لقطات او مكوِّنات ذلك المشهد تباعاً، وفي كلا الحالتين يعملُ الشاعر على صهر تلك المكونات الصغيرة مع عنصرها
الرئيس.