عطش بلاد النهرين

آراء 2023/08/15
...

ياسين العطواني

مشاهد صادمة ومؤذية تلك التي تعرض عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المختلفة وهي تظهر تراجعاً حاداً في مناسيب نهري دجلة والفرات، خاصة في المحافظات والمناطق الجنوبية، الأمر الذي طالما حذرت منه جهات ومنظمات دولية معنية بالتغيرات المناخية، والتي صنفت العراق خامس أكثر دولة في العالم تأثراً بالتغيرات المناخية.
والمُستغرب أن هذه المأساة تحدث في العراق، هذا البلد الذي ارتبط اسمه وحضارته بالمياه والأنهار والخصب، فجميع التسميات العربية والأعجمية، التي أُطلقت على هذه البلاد استوحت المفهوم الأسمي بشكل أو بآخر من مفردات النهر، والشاطئ، والخصوبة. فهذا السهل المنبسط المُحاط بالجبال والهضاب من الشمال والشرق، وصحراء قاحلة من الجنوب والغرب، تلك الصفة التي تميزت بها أرض العراق عن باقي دول المنطقة جعلتها محل أنظار وأطماع الجميع، حيث إنها كانت تشكل منطقة جذب للعديد من الأقوام الذين سكنوها وشادوا فيها أرقى الحضارات، نظراً لما تتمتع به من وفرة في المياه، وخصوبة في الأرض. ولذلك كان العراق يمثل العمود الفقري للاستقرار البشري، اذ نشأت على ضفاف دجلة والفرات العديد من المستوطنات والمدن ذات التاريخ العريق، والتي ساهمت في بناء ونشوء الحضارة الإنسانية. وبالمقابل وبسبب هذه الخاصية التي تفردت بها بلاد مابين النهرين تعرضت البلاد إلى غزوات متعاقبة، ومن جهات متعددة طمعاً بخيرات دجلة والفرات.
لقد تعامل أهل العراق مع الأنهار بقدسية، فهي مصدر رخائهم ومبعث حضاراتهم، وكان البابليون يعتقدون أن الفرات إلهاً، وحين يغضب على رعيته يعاقبهم بالطوفان، ولهذا تقدم له الهدايا والنذور تجنباً لغضبه. ويبدو أن هذه القدسية لم تعد قائمة، وأن زمن الطوفان قد ولى. وتؤكد معظم التقارير والمؤشرات الدولية أن العراق يُعد من أسوأ بلدان العالم من حيث التصحر والجفاف بالتزامن مع تفاقم أزمة شح المياه، وأن بلاد الرافدين ستكون أرضاً بلا أنهار بحلول عام 2040، وكل الدلائل على الأرض تشير إلى هذه الفرضية. وبلا شك ستكون هناك تداعيات على أكثر من صعيد لهذه الكارثة البيئية والإنسانية، وستظهر نتائجها السلبية على الأنسان، والحيوان، والنبات، بل وحتى على الأرث الحضاري لبلاد مابين النهرين، وهناك أكثر من جهة وطرف يعمل في السر والعلن على أحداث تغيرات ديموغرافية وحضارية، من خلال استهداف العراق في أمنه المائي، وهذا يعني استهداف أرثه الحضاري الذي عُرف به، ومن ثم وجوده كبلد محوري في هذه المنطقة من العالم القديم والجديد.
إن جفاف نهري دجلة والفرات يشكل أزمة وجود العراق وضياع حضارته، فالماء هو أساس الإجتماع العراقي وجوهر التشكل الحضاري، فقد استمد العراق هويته في التاريخ وفي الجغرافية من كونه نشوءاً ديموغرافياً ما بين دجلة والفرات، قامت بينهما حضارة تعود لأكثر من سبعة آلاف سنة، ومن هنا نفهم سبب قلق بعض الاساطير الدينية التي تربط ما بين جفاف نهر الفرات ونهاية العالم. ولهذا علينا التذكير بأهمية وخطورة هذه الأزمة، والتي يجب التعامل معها ولا سيما من قبل الجهات المعنية بإدارة الملف المائي كقضية وطنية ملحة، تتطلب مبادرات مركزية ومتابعات ميدانية حثيثة، إلا أن ما مطروح اليوم لمواجهة هذه الأزمة لا يتعدى ردود الأفعال الآنية. ولم يستخدم الجانب العراقي أوراق الضغط التي يمتلكها، وهي كثيرة ومتعددة، ومنها السياسية، والاقتصادية، وحتى الأمنية، والتي من الممكن أن تعزز موقفه التفاوضي، وتنظم علاقاته التي يجب أن تسود مع دول المنبع، فإن العامل المائي وحاجته وندرته أصبح مرتبطا بالبعد السياسي، إذ أضحى يوظف في خدمة الأغراض والأهداف والنفوذ والمصالح المختلفة، وهذا ما نجحت به بقية الأطراف عندما ربطت قضية المياه مع استحقاقات أمنية وسياسية واقتصادية. وتشير التقارير التي تصدر عن مراكز الدراسات الستراتيجية إلى أن المياه وليس النفط ستكون من أهم المصادر الطبيعية، التي تُسيطرعلى اهتمامات العالم في السنوات القادمة، فالنزاع على مصادر المياه المحدودة والمهددة يمكن أن يؤثر في الروابط بين دول المنطقة، وأن الحروب المرشحة القادمة سيكون لقضية المياه أثر كبير وواضح في نشوب هذه الحروب، وما دام الأمر بهذه الخطورة لذا يجب ان يتم التعامل معها من هذا المنطلق، لكن ماموجود على أرض الواقع لا يشير إلى هذه الخطورة. فها نحن نقف اليوم بين جهل وتجاهل الجهات المعنية، وسياسة دول المنبع المُجحفة. وكانت المُحصلة هذه الصورة الصادمة والمُفزعة، للنهرين الخالدين دجلة والفرات، وهما يحتضران أمام أنظار الجميع.