لا شك أن اسم (واق واق) تعرفه معظم شعوب الأرض إن لم تكن جميعها، لكنه اشتهر بين العرب ويكادون يكونون أول من أطلق هذا الاسم أو تداوله، حتى أنه موجود في العديد من كتب التراث العربي وبالأخص أدب الرحلات والبلدان.
(الواقواق) لدى العرب اسم لمجموعة من الجزر، واتفقوا على أنها تقع في الشرق الأقصى، وما روي عن هذه الجزر يجعلها أقرب للخيال والخرافة، خاصة وأنه لم يتم تحديد الموقع الجغرافي الدقيق لها، ما جعلها بيئة خصبة للقصص والأساطير.
تقول كتب التراث العربي الكثير عن هذه الجزر، فهناك من جعلها من أغنى البلدان حتى أن سكانها يرتدون قمصاناً منسوجة من الذهب ويُلبسون قردتهم أطواقاً ذهبية ويربطون كلابهم بسلاسل من ذهب.
لكنني هنا لن أتحدث عن هذه الجزر الافتراضية وما يحفها من خيال واسع، ولا عن ثرائها وقردتها وكلابها المذهبة، بل أتحدث عن طائر استعار اسم هذه الجزر، ألا وهو طائر الوقواق.
يُعرف الوقواق بأنه من أكثر الطيور خبثاً ولؤماً وإهمالاً لصغاره، فعندما يحين موعد وضع البيض، تبحث أثنى الوقواق عن عش طائر آخر سيئ الحظ يكون قد ترك عشه بحثاً عن الغذاء أو لسبب آخر، فتقوم الانثى بوضع بيضها في ذلك العش وتطير من غير رجعة، وحين تفقس بيضة الوقواق فإن أول شيء يفعله الفرخ الخبيث هو التنقل داخل العش بحثاً عن بيوض الطائر المسكين أو فراخه إن كان البيض قد فقس، ويقوم بدفعها خارج العش ليخلو له المكان ويستفرد بكامل الغذاء الذي يأتي به الأبوان البديلان لأفراخهما التي قضت نحبهاعلى يد هذا الطائر اللئيم.
في العراق يوجد ذهب لكنه أسود اللون يتدفق من الأرض، وبالرغم من ذلك يعاني العراقيين من واقع مأساوي جعل خيالهم يشطح بعيداً نحو جزر الواقواق وما فيها من ترف، وفي العراق أيضاً هناك الكثير من طيور الوقواق وفراخها الخبيثة التي تتحين الفرص للانقضاض على أعشاش الغير ومصادرتها والتفقيس فيها ومن ثم طرد وإقصاء أهل البيت الشرعيين منه.
هؤلاء الطفيليون ولأنهم بلا مشاريع حقيقية تلامس متطلبات العراق والعراقيين فهم بطبيعة الحال يبحثون عن المشاريع الوطنية التي يطرحها مخلصون لهذا البلد، فيأتي أولئك ويستولون عليها بقوة المال أو السلاح أو جحافل الرعاع المنقادة بلا وعي ولا وطنية، ولا يكتفون بذلك، بل حتى عندما تكون لديهم مشاريع سواء كانوا قد استولوا عليها أو تفتقت عنها أذهانهم التي في العادة لا تنتج إلا الخراب، لكنهم حين يرون مشاريع تحظى باهتمام وتأييد جماهيري فهم يندسون كالأفاعي لسحب البساط من الآخرين وتصدر المشهد لتجميل صورهم القبيحة، أو لإجهاض ما يمكن أن يصلح الوضع، خوفاً من الإصلاح الذي يعد الخطر الأكبر الذي يهدد مصالح الوقواقيين ووجودهم الأميبي، لذلك تراهم يقوضون أية فرصة أو حراك إصلاحي حقيقي إما بتشويهه أو بالالتفاف عليه لتسويفه فإن لم يجدوا لذلك سبيلاً يخترقونه لسحبه إليهم أو لتنفير العراقيين منه بعد أن اكتشفوا أن هذه الوسيلة (التنفير) هي الأنجع والأسرع والأقل كلفة.
الانتفاضة البصرية بدأت بمطالب مشروعة وغاية في البساطة حيث اقتصرت على تأمين فرص عمل وتوفير الخدمات ليس إلا ولم يطرح المتظاهرون مطالب عامة تتعدى حدود محافظتهم لمحاولة إصلاح الوضع العام في العراق، أما المطالبة بإقليم البصرة فلم يكن مطلباً أساسياً للمتظاهرين في حينها لكنه جاء نتيجة لإهمال مطالبهم ومن ثم محاولات قمعهم ومن ثم قتلهم واعتقالهم وتعذيبهم فأنتج ذلك رد فعل تمثل بالتحول إلى المطالبة بأقلمة المحافظة بهدف إدارتها من قبل أهلها والتنعم بخيراتها التي حرموا منها منذ عقود من الزمن.
ما يجري في البصرة هو مشروع شعبي خالص أمنت به قاعدة جماهيرية واسعة قبل أن تتبناه أية جهة سياسية، وما حدث مؤخراً من تصويت مجلس محافظة البصرة على تحويل إلى إقليم ليس استجابة أو رضوخاً لرغبة الجماهير كما قد يظن البعض بل هي محاولة لمصادرة هذا التوجه الجماهيري من قبل الوقواقيين، لكن هناك بصيص أمل كبير، فالبصرة على وعي تام بما يراد بها وبأهلها، والمتظاهرون فهموا لعبة الاختراق وما عادت تنطلي عليهم، وهم بحسب ما يؤكدون مستمرون بانتفاضتهم رغم مناقير طيور الوقواق.