تواطؤ أنثوي

آراء 2023/08/16
...

  ميادة سفر


تمكنت الهيمنة الذكورية من تكوين بيئة اجتماعية وثقافية عززت من سلطتها، وساهمت في استمرارها، فترسخت في العقول وتوارثتها الأجيال، متحولة إلى عرف برتبة قانون لا يجوز خرقه، إلا أنّ هذا الواقع وتلك التبعية ما كان لها أن تستقر وتحوز الشرعية الاجتماعية وحتى الفكرية إلا برضوخ الضحية وقبولها، وفي بعض الأحيان دفاعها عنها، وتواطؤها مع المجتمع الذكوري، والتأكيد عليها من خلال التربية.

تمكنت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دوبوفوار منذ عقود من تلخيص وضع المرأة بعبارة صغيرة وردت في كتابها الشهير “الجنس الآخر” تقول: “ لا يولد المرء امرأة، إنه يصبح كذلك”، حيث تصنع المرأة وتوضع في قوالب معدة سلفاً من قبل المجتمع، بشكل يعزز الهيمنة عليها ويضمن استمرارها، تلك الممارسات التي تغيرت و”تطورت” بفعل الحداثة التي ساهمت في تشيئ المرأة وتحويلها إلى ما يشبه “الباربي” بغرض لفت النظر وإمتاع الذكور.

المفارقة هنا أنّ النساء أو بعضهن يتواطأن مع الذكور في تعزيز تلك السلطة، فالمرأة تربى لمصيرها الطبيعي وهو الزواج، ويراقبن بعضهن البعض منتقدين أصغر تصرف، ملتجئين إلى الرجل “الذكر” لتقويم أي اعوجاج يبدر من أي منهن، وتتحول عبارة “صبي لا يعيبه شيء” إلى شعار يكرس الهيمنة الذكورية والقمع الأنثوي، مستعينين بأعراف وتقاليد وقوانين وأديان وسلطات مجتمعية استمرت تمارس ساديتها على المرأة، وتنظر إليها كعقل ناقص وضلع أعوج. 

سعت السلطات بمختلف أشكالها اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية وأحياناً اقتصادية إلى إبقاء النساء في دوائر مغلقة ومحاصرة ومحط الأنظار، بشكل ساهم إلى حد كبير في استمرار الهيمنة الذكورية والتبعية، وتمكنت من تحويل الكثيرات إلى مجرد مزهريات الغرض منها تزيين البيت وإضفاء رونق جميل عليه، فيما لجأ آخرون إلى تغطيتها وحجبها عن الأنظار إلا عن المالك المستقبلي لها، وعلى الرغم من نيل المرأة قدراً من التعليم والسماح لها بالخروج من البيت دون “محرم” والسفر لوحدها بلا أذن من ولي الأمر، كما أعطيت حرية اختيار ملابسها وشريك حياتها، إلا أنّ نسبة من حصلن من النساء على التعليم وحملن شهادات عليا، أو من دخلت منهن سوق العمل المأجور وتبوأن مناصب مرموقة في الدولة، وإن كانت مؤشرات إيجابية على تغيير لابدّ منه، إلا أنها ليست بالضرورة مؤشراً على الحرية والانعتاق من الإعاقة الاجتماعية والفكرية التي ما زالت منتشرة في كثير من مجتمعاتنا.

إنّ المرأة اليوم بعد كل التقدم الاجتماعي والفكري والقانوني الذي طال موقعها في المجتمع، ليست هي نفسها المرأة منذ عقود، فهي وإن كانت حققت الكثير من النجاح وتفوقت في كثير من المجالات، إلا أنّ الرجل بالمقابل خطى خطوات كبيرة بعيداً عنها وأصرّ على وظيفتها الأهم كزوجة وأم، فضلاً عن أنّ الكثيرات لا يمتلكن الوعي والقدرة اللازمة لكسر الطوق والتمرد، ولا تحظى كثيرات بفرص التحرر، لعدم توافر فرص متساوية في التعليم والعمل، وعدم اعتراف المجتمع بأهليتهن وقدرتهن على اتخاذ القرار السليم، والشك الدائم بهن وتحميلهن وزر أي اعتداء يتعرضن له، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تزداد سوءاً في بلادنا، مما يدفع الكثير من النساء لقبول أشكال مختلفة من الابتزاز المادي والمعنوي، كل ذلك يشي بالمأزق الذي مازال مستمراً والذي يحتاج من النساء الانتصار على ضعفهن واستثمار التطور الذي أشرنا إليه لصالحهن جمعياً.