بِمَ يتمثل ‏‎)‎التفسخ السياسي)‎‏ في المجتمع؟

آراء 2023/08/16
...

 عبد الحليم الرهيمي

 يعد إنجاز التنمية السياسية أحد الأهداف الرئيسة في الدول النامية، التي تسعى لتحقيق التنمية الاجتماعية ‏والاقتصادية وتحقيق التقدم والعمران لبلدانها، لكن بالترافق مع هذا الانجاز وموازاته، تنتج عنه بالمقابل حالة ‏من الحراك السياسي والاجتماعي وحتى الفكري، وإن هذه الحالة تنتج أو تفرز بدورها عددا من المظاهر ‏السلبية، التي يصفها أحد ابرز علماء السياسة الاميركيين والمختص بقضايا التنمية صاموئيل هنغستون بـ ( ‏التفسخ السياسي)، الذي نشر عام 1965 دراسة بعنوان (التنمية السياسية والتفسخ السياسي)، 

والتي أثارت في ‏وقتها اهتمام الرأي العام والمختصين، ومن ضمنهم تلميذه السابق فرنسيس فوكوياما الذي ناقش بالتفصيل هذه ‏النظرية بدراسة حملت عنوان (النظام السياسي والتفسخ السياسي، ونظراً لاهمية هذه الدراسة – النظرية ‏هنغستون اعيد الاهتمام بها ومناقشتها في السنوات الاخيرة.‏

هذه الاهمية لتلك الدراسة لفتت انتباه واهتمام الكاتب السعودي الدكتور توفيق الشيخ الذي عمد إلى التعريف ‏بها للقراء والمختصين العرب بمقال نشره في جريدة (الشرق الاوسط)، التي تصدر في لندن بعنوان (حول ‏التفسخ السياسي). ويتضمن هذا التعريف عرض أهم أفكار ومحاور هذه النظرية، لاسيما الف كرة الرئيسية التي ‏تقول بان التنمية السياسية تؤدي إلى حراك سياسي واسع والى تزايد المتطلبات الكثيرة الفردية والاجتماعية، ‏والتي لا تستطيع الدولة أن تلبي معظمها فيحدث عندئذ التفسخ في المجتمع، خاصة بين الأجيال الجديدة ‏والتي مع تسارع وزيادة الحراك السياسي تطرح هذه الأجيال تساؤلات حول العديد من القضايا الدينية والسياسية ‏والاجتماعية، والتي كانت حسب الدراسة حكراً على النخبة السياسية والفكرية في المجتمع. وإن اهتمامات ‏وأفكار وتطلعات هذا الجيل تترافق مع بروز اعتقاد غير عملي، وهو أنه بقدرة الدولة أو السلطة – اي سلطة – ‏على تحقيق كل ما يريد ويتمنى، ولأن ذلك لا يحدث فقد يؤدي إلى حالات الاحباط والياس والى الانفجار ‏بمختلف التعبيرات. واذ لا تؤدي هذه الحالات إلى ما يرغب ويتطلع اليه هذا الجيل فتحدث حالة انكسارات ‏اجتماعية، لذا فان عدم تمكن الدولة من استيعاب هذا الحراك الاجتماعي فان ذلك سيقود حسب الدراسة إلى ( ‏التفسخ السياسي) المتمثل ايضاً بالمشاعر السلبية وانعدام المسؤولية وضعف القيم الأخلاقية والاجتماعية، ‏وتنحسر روح المبادرة وتحمل المسؤولية. ‏

ولمواجهة هذا (التفسخ السياسي) الناجم عن الحراك المتعاظم للجيل الجديد يقترح هنغستون ثلاثة سبل: ‏الاول، دولة قوية تضبط ايقاعات واسباب الحراك وما نجم عنه بموازنة دقيقة، الثاني سعي الدولة واجهزتها ‏الى أقناع الجيل الجديد بتفهم الاوضاع بوعي وواقعية والثالث، اعطاء أدوار مهمة لمنظمات المجتمع المدني ‏لتكون (الوسيط) للمواءمة بين حدود قدرة الدولة على تحقيق تطلعات الجيل، وبين دعوة واقناع هذا الجيل إلى ‏تفهم حقيقة الأوضاع وتعقيداتها برؤية عملية قادرة على الاقناع والتفهم.‏

وبعد اطلاعي على عرض الدكتور توفيق الشيخ في مقاله حول التفسخ السياسي للفكرة الرئيسة لدراسة - ‏نظرية هنغستون أثيرت لدي العديد من التساؤلات حول ما اذا كان العراق قد شهد بعد العام 2003 تحديداً، ‏دون الاشارة إلى المراحل التي قبلها، تنمية سياسية، وهل نجم عنها حراك واسع للجيل الجديد وادت بالتالي إلى ‏‏( التفسخ السياسي)؟ ‏

لقد بدأت فعلا بعد ذلك التاريخ بوادر وتعبيرات واسعة عن التنمية السياسية التي رافقته، وبحدود تمثلت ‏بانطلاق الحياة السياسية ذات السمة الديمقراطية بكل تعبيراتها، اما التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد ‏شهدت تقدماً ملحوظاً بمختلف المستويات، رغم أن التنمية الاقتصادية لم تكن وليدة التقدم في المجالات ‏الصناعية والزراعية والمجالات الاخرى أنما بسبب انتاج النفط أساساً، وهذا جانب سلبي في التنمية لانه لا ‏يوفر فرص العمل الضرورية، ولا يوجد القاعدة والبنية الاساسية الحقيقية لاقتصاد البلد، فأضافت هذه بدروها ‏عاملاً مهماً آخر للحراك السياسي والاجتماعي الذي بدأ مع السنوات الاولى للتغير عام 2003، وبلغ إحدى ‏ذرواته العالية في المرحلة الراهنة بدخول اجيال شابة جديدة إلى سوق العمل ومواجهة الحياة - لها تطلعاتها ‏وأفكارها وهمومها التي أظهرت السلطات عدم قدرتها على تحقيق معظمها خلال العقدين المنصرمين، ونتيجة ‏لعدم الاستجابة المطلوبة لها تولد عنها حراك شعبي واسع وشديد بتعبيرات مختلفة، ولانها لم تسفر عن نتائج ‏لتفهم هذا الحراك وأهدافه، فأدى ذلك إلى اتساع حالات اليأس والإحباط والشعور بفقدان الأمل، فبرز بذلك ‏التعبير عن كل مظاهر التفسخ السياسي في صفوف المجتمع، خاصة الاجيال الجديدة وفي التفسخ السياسي ‏والاخلاقي في مؤسسات الدولة، الذي يتجلى بأبرز تعبيراته وهو الفساد المستشري وضعف أو انعدام روح ‏المسؤولية المهنية والاخلاقية في معظم ادارات اجهزة الدولة... انه التفسخ السياسي بابرز تعبيراته، والذي ‏يحتاج إلى عمل وجهود استثنائية لتجاوزة والتخلص منه. ‏