عبد الحليم الرهيمي
يعد إنجاز التنمية السياسية أحد الأهداف الرئيسة في الدول النامية، التي تسعى لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق التقدم والعمران لبلدانها، لكن بالترافق مع هذا الانجاز وموازاته، تنتج عنه بالمقابل حالة من الحراك السياسي والاجتماعي وحتى الفكري، وإن هذه الحالة تنتج أو تفرز بدورها عددا من المظاهر السلبية، التي يصفها أحد ابرز علماء السياسة الاميركيين والمختص بقضايا التنمية صاموئيل هنغستون بـ ( التفسخ السياسي)، الذي نشر عام 1965 دراسة بعنوان (التنمية السياسية والتفسخ السياسي)،
والتي أثارت في وقتها اهتمام الرأي العام والمختصين، ومن ضمنهم تلميذه السابق فرنسيس فوكوياما الذي ناقش بالتفصيل هذه النظرية بدراسة حملت عنوان (النظام السياسي والتفسخ السياسي، ونظراً لاهمية هذه الدراسة – النظرية هنغستون اعيد الاهتمام بها ومناقشتها في السنوات الاخيرة.
هذه الاهمية لتلك الدراسة لفتت انتباه واهتمام الكاتب السعودي الدكتور توفيق الشيخ الذي عمد إلى التعريف بها للقراء والمختصين العرب بمقال نشره في جريدة (الشرق الاوسط)، التي تصدر في لندن بعنوان (حول التفسخ السياسي). ويتضمن هذا التعريف عرض أهم أفكار ومحاور هذه النظرية، لاسيما الف كرة الرئيسية التي تقول بان التنمية السياسية تؤدي إلى حراك سياسي واسع والى تزايد المتطلبات الكثيرة الفردية والاجتماعية، والتي لا تستطيع الدولة أن تلبي معظمها فيحدث عندئذ التفسخ في المجتمع، خاصة بين الأجيال الجديدة والتي مع تسارع وزيادة الحراك السياسي تطرح هذه الأجيال تساؤلات حول العديد من القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية، والتي كانت حسب الدراسة حكراً على النخبة السياسية والفكرية في المجتمع. وإن اهتمامات وأفكار وتطلعات هذا الجيل تترافق مع بروز اعتقاد غير عملي، وهو أنه بقدرة الدولة أو السلطة – اي سلطة – على تحقيق كل ما يريد ويتمنى، ولأن ذلك لا يحدث فقد يؤدي إلى حالات الاحباط والياس والى الانفجار بمختلف التعبيرات. واذ لا تؤدي هذه الحالات إلى ما يرغب ويتطلع اليه هذا الجيل فتحدث حالة انكسارات اجتماعية، لذا فان عدم تمكن الدولة من استيعاب هذا الحراك الاجتماعي فان ذلك سيقود حسب الدراسة إلى ( التفسخ السياسي) المتمثل ايضاً بالمشاعر السلبية وانعدام المسؤولية وضعف القيم الأخلاقية والاجتماعية، وتنحسر روح المبادرة وتحمل المسؤولية.
ولمواجهة هذا (التفسخ السياسي) الناجم عن الحراك المتعاظم للجيل الجديد يقترح هنغستون ثلاثة سبل: الاول، دولة قوية تضبط ايقاعات واسباب الحراك وما نجم عنه بموازنة دقيقة، الثاني سعي الدولة واجهزتها الى أقناع الجيل الجديد بتفهم الاوضاع بوعي وواقعية والثالث، اعطاء أدوار مهمة لمنظمات المجتمع المدني لتكون (الوسيط) للمواءمة بين حدود قدرة الدولة على تحقيق تطلعات الجيل، وبين دعوة واقناع هذا الجيل إلى تفهم حقيقة الأوضاع وتعقيداتها برؤية عملية قادرة على الاقناع والتفهم.
وبعد اطلاعي على عرض الدكتور توفيق الشيخ في مقاله حول التفسخ السياسي للفكرة الرئيسة لدراسة - نظرية هنغستون أثيرت لدي العديد من التساؤلات حول ما اذا كان العراق قد شهد بعد العام 2003 تحديداً، دون الاشارة إلى المراحل التي قبلها، تنمية سياسية، وهل نجم عنها حراك واسع للجيل الجديد وادت بالتالي إلى ( التفسخ السياسي)؟
لقد بدأت فعلا بعد ذلك التاريخ بوادر وتعبيرات واسعة عن التنمية السياسية التي رافقته، وبحدود تمثلت بانطلاق الحياة السياسية ذات السمة الديمقراطية بكل تعبيراتها، اما التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد شهدت تقدماً ملحوظاً بمختلف المستويات، رغم أن التنمية الاقتصادية لم تكن وليدة التقدم في المجالات الصناعية والزراعية والمجالات الاخرى أنما بسبب انتاج النفط أساساً، وهذا جانب سلبي في التنمية لانه لا يوفر فرص العمل الضرورية، ولا يوجد القاعدة والبنية الاساسية الحقيقية لاقتصاد البلد، فأضافت هذه بدروها عاملاً مهماً آخر للحراك السياسي والاجتماعي الذي بدأ مع السنوات الاولى للتغير عام 2003، وبلغ إحدى ذرواته العالية في المرحلة الراهنة بدخول اجيال شابة جديدة إلى سوق العمل ومواجهة الحياة - لها تطلعاتها وأفكارها وهمومها التي أظهرت السلطات عدم قدرتها على تحقيق معظمها خلال العقدين المنصرمين، ونتيجة لعدم الاستجابة المطلوبة لها تولد عنها حراك شعبي واسع وشديد بتعبيرات مختلفة، ولانها لم تسفر عن نتائج لتفهم هذا الحراك وأهدافه، فأدى ذلك إلى اتساع حالات اليأس والإحباط والشعور بفقدان الأمل، فبرز بذلك التعبير عن كل مظاهر التفسخ السياسي في صفوف المجتمع، خاصة الاجيال الجديدة وفي التفسخ السياسي والاخلاقي في مؤسسات الدولة، الذي يتجلى بأبرز تعبيراته وهو الفساد المستشري وضعف أو انعدام روح المسؤولية المهنية والاخلاقية في معظم ادارات اجهزة الدولة... انه التفسخ السياسي بابرز تعبيراته، والذي يحتاج إلى عمل وجهود استثنائية لتجاوزة والتخلص منه.