{داعش} تستخدم الكمأ لبث الفتنة الطائفية
بانوراما
2019/05/03
+A
-A
أليسا جي روبن
ترجمة: انيس الصفار
كان مهند صالح ياسين مستغرقاً كلياً بالبحث عن أطيب طيبات الموسم، يتفحص الارض بإمعان محاولاً التقاط المواضع حيث تتشقق التربة وتنتفخ قليلاً في دلالة تشي بأن كمأ الصحراء الذي يبحث عنه كامن تحتها.
لم ينتبه مهند الى شاحنتي البيكاب الصغيرتين اللتين يقودهما رجال بالزي العسكري، إلا بعد ان اقتربوا منه جداً.
يقول مهند، وهو صيدلي يبلغ من العمر 31 عاماً: “أمروني بالصعود الى السيارة. فكرت في الممانعة ولكنهم كانوا مسلحين.” ما أن صعد معهم حتى اصبح آخر ضحية للحملة الجديدة التي تشنها “داعش”. فبعد أن طرد التنظيم الارهابي من معظم المناطق التي كان يسيطر عليها في العراق وسوريا عاد الى اسلوب العمل في الخفاء وأخذ المتبقون من مقاتليه في العراق ينفذون الهجمات المتفرقة هنا وهناك.
منذ شهر كانون الثاني الماضي كان هؤلاء يختطفون جامعي الكمأ العراقيين، وفي بعض الاحيان يقتلونهم، كانوا يفعلون هذا غالباً في صحارى غرب محافظة الانبار. تؤكد قوات الامن العراقية أن 44 من جامعي الكمأ قد جرى اختطافهم خلال هذه السنة، وربما كان هناك آخرون لم يبلغ عنهم أحد.
الهدف فتنة طائفية
اعمال الاختطاف ليست سوى جزء من هجمات “داعش” التي تقع الان في العراق، حيث يحمل كل يوم يأتي خبراً او اكثر عن تعرض نقطة تفتيش لإطلاق نار او مناوشة بالاسلحة او عملية اختطاف، بيد ان هجمات اتباع داعش على جامعي الكمأ تعكس تركيزاً متجدداً على محاولة بث التوترات الطائفية بين ابناء البلد. فبينما يدفع جامعو الكمأ السنة الفدية عادة ثم يطلق سراحهم، وهو ما فعله مهند، لا يحظى الشيعة بمثل هذه الفرصة مطلقاً، بل يتم قتلهم، انطلاقا من أن “داعش” تعتبر الشيعة كفاراً، لذا دأبت منذ انطلاقتها الاولى على قتلهم وتدمير مساجدهم.
تعتقد السلطات الاستخبارية والعسكرية العراقية ان اسلوب تعامل الجماعة مع رهائنها يمثل محاولة لزرع فتنة طائفية مثل تلك التي مزقت البلاد بين سنوات 2003 و2008 عقب سقوط نظام صدام ثم عادت فتكررت خلال فترة السنوات 2012 و2014.
يقول ابو علي البصري، مدير عام من المخابرات العراقية، أن أشد ما يخشاه هو ان تفلح اعمال القتل تلك باستدراج السياسيين الشيعة الى القاء التبعة، ولو كلامياً، على الطائفة السنية بأكملها. عندئذ سيلتقط الاعلام المغرض الرسالة ويضخمها، وقد يؤدي الأمر بالفعل الى اطلاق دورة عنف جديدة.
اعمال الاختطاف ايضاً وسيلة تستحوذ بها “داعش” على المال من الرهائن، عدا كونها إشارة للاهالي المدنيين بأن التنظيم لايزال قوة ذات بطش. يعتقد المسؤولون العراقيون، الذين يرون أن التنظيم الارهابي مازال تهديدا لم يخرج بعد عن نطاق المعالجة، ان ثمة خمسة الى ستة آلاف من مسلحي “داعش” مازالوا يعملون على أراضي العراق وسوريا.
ذلك الخطر الماثل لم يكن ليثني جامعي الكمأ، فهذه الاكلة من الاطايب التي لها مكانتها على المائدة العراقية، والرطل الواحد منها ( أقل من نصف كيلوغرام) قد يدرّ على صاحبه مبلغاً يصل الى ستة دولارات عند وصوله الى الاسواق المحلية.
من عمق الصحراء
كمأ الصحراء اضعف رائحة ونكهة بكثير من نظيره الاوروبي، ولكن العراقي منه له تميز خاص نظراً لقوامه الشبيه باللحم ونكهته الرقيقة، وكل عائلة عراقية تقريباً على امتداد هذه الانحاء لها طريقتها المفضلة في طبخ الكمأ، الذي يسمى باللهجة المحلية “جمة”.
كان مهند قد قاد سيارته لمدة ساعات الى عمق الصحراء مبتعداً عن منطقة البغدادي، حيث يقيم، قاصداً هذا المكان المثالي المنقطع، الى حد يصعب معه تخيل ان الخطر قد يصل اليه. كما إن جمع الكمأ نشاط تمارسه كثير من العوائل القاطنة غرب العراق خلال ايام الشتاء اللطيفة البرودة حين تكسو الخضرة الزاهية المشهد المجدب لفترة قصيرة من الزمن.
يقول مهند: “كانت المنطقة منبسطة جميلة مخضوضرة لا يعكر صفاءها شيء، أرض وسماء ولا شيء آخر.”
بعد أن عصب المسلحون، الذين أمسكوا به، عينيه، وخمسة من ابناء اعمامه الذين خرجوا معه لالتقاط الكمأ، بدا من المستغرب له ذلك الحرص الذي أبداه الخاطفون على جعل المحتجزين يعلمون من هو الذي يحتجزهم.
يقول مهند: “أخذوا يسألوننا: هل عرفتم من نحن؟ ثم يجيبون على سؤالهم قائلين: اعلموا أننا من ’الدولة الاسلامية‘.”
يتذكر مهند أنه بمجرد سماعه تلك الكلمات جالت برأسه الخواطر: “أنا هالك لا محالة، فلقد حلت نهايتي لأن هؤلاء سوف يقتلوني.”
بدلاً من ذلك اقتيد هو وابناء عمه الى مدخل كهف ينتهي بغرفة صغيرة تحت الارض كانت فيها مجموعة اخرى من الأسرى المحتجزين.
لم يتكلم مسلحو “داعش” مع احد ولكنهم احضروا طعاماً ودعوا الجميع لأداء الصلاة.
جواسيس داعش
في اليوم التالي دخل عليهم مسؤول من “داعش” وبدأ يستجوبهم مبتدئاً بالجماعة الأولى، ولكنه بدا منذ البداية ملماً بالحقائق قبل أن يطرح الاسئلة لأنه اخذ يعدد ارتجالاً بعض التفاصيل الشخصية المتعلقة بكل واحد منهم، مثلاً محل اقامته وانتماءاته السياسية. جعل ذلك مهند يشك بأن لدى “داعش” جواسيس مدسوسين بين كوادر الحكومة المحلية بما يمكنهم من التحري وتزويدهم بمثل تلك التفاصيل.
أثناء التحقيق مع احد المخطوفين إتهم الداعشي المستجوب رجلاً بالكذب بشأن مهنته، وفقاً لما حدثنا به مدير مدرسة. قال له الداعشي: “لقد اكتشفنا انك تعمل ضمن الدفاع المدني، لهذا فإن عقابك هو الموت. (حتى الآن لم يقتل من جامعي الكمأ السنّة سوى ضباط الشرطة خارج اوقات العمل).
رد عليه الرجل: “هذا صحيح، لقد كنت اعمل سابقا مع الدفاع المدني، ولكني تركت ذلك العمل وأعمل الان قصاباً.”
يقول مدير المدرسة صلاح مالك فليح، وعمره 62 عاماً، انه انبرى للدفاع عن الرجل وقال: “ما قاله هو الحقيقة، فأنا اعرف هذا الرجل، إنه جاري وهو يعمل قصاباً.” وبذلك نجا القصاب من
الموت.
أبلغ الدواعش صلاح بأن عليه دفع مبلغ خمسين ألف دولار مقابل إطلاق سراحه، وهو مبلغ متعذر عليه براتبه الذي لا يتجاوز 1200 دولار طيلة شهر كامل. وأخيراً خفض المبلغ الى 20 ألف دولار، لكنهم فرضوا على آخرين دفع مبلغ عشرة آلاف دولار عن الشخص الواحد.
وكانت قيمة الفدية مماثلة بالنسبة لمجموعة مهند. وهناك مأساة حمزة كاظم الجبوري المزارع الشيعي الذي يبلغ من العمر 42 عاماً، ولكن قصته مختلفة عما
سمعناه.
فالمنطقة النائية، التي خرج اليها حمزة مع اثنين من اشقائه وابن اخيه واثنين من جيرانهم طلباً للكمأ، تبعد نحو 100 كيلومتر الى الجنوب من المكان الذي اختطف فيه مهند. ومن خلال اسلوب مماثل لما واجهه الأخير، تعرض هؤلاء الرجال ايضاً للاختطاف من قبل رجال يرتدون بزات عسكرية المظهر ثم نقلوا عبر نفق الى غرفة تحت الارض فيها محتجزون آخرون. عند هذه النقطة ينتهي التشابه بين الحادثتين.
اعطى المسلحون حمزة، وكذلك كل فرد من باقي جماعته، تمرة واحدة ونصف قدح من الماء فقط بينما اعطي الاسرى السنة وجبة كاملة. وقد وجهت الدعوة للسنة لأداء الصلاة ولكن ذلك لم يحدث بالنسبة لحمزة ومن معه، ورفعت القيود عن المخطوفين السنة ولكنها أبقيت على حمزة وجماعته الذين جردوا حتى من أحذيتهم.
مرتدون
أخذ عنصر “داعش” ينادي الاسرى السنة باسمائهم مشيراً الى المناطق التي جاؤوا منها، ولكنه عندما انتقل الى الشيعة لم يقل أكثر من كلمة واحدة: “مرتدون”، ثم اصدر حكماً بالموت.
خلال الليل نقل مسلحو داعش حمزة وجماعته بالسيارة الى عمق الصحراء. كانت هناك رشاشة من نوع “أم 16” موضوعة بين السائق الداعشي والحارس الجالس بجواره.
يقول حمزة أنه أخذ يحاول معالجة الوثاق الذي يقيد يديه وقد غمره شعور بالخوف من أنه قد يقتل في اية لحظة الان. أخيراً تمكن من تحرير نفسه فهمس لشقيقه بأن يفعل مثله.
يقول: “كان كل أملي أن اتمكن من النجاة. لقد شاهدت افلاماً أميركية كثيرة لجاكي شان وآرنولد وحسبت أني ربما سأتمكن من انقاذ نفسي.”
اشتبك حمزة وشقيقه واحد جيرانهم بالايدي مع المسلحين من الخلف، فانعطف السائق بالسيارة وقفز منها وفر الى الصحراء. فصعد حمزة الى مقعد السائق وادار المفتاح ولكن المحرك لم يشتغل.
أمسك بالرشاشة “أم 16” ووجهها نحو المسلح الداعشي الثاني وضغط على الزناد، فلم يحدث شيء. كرر المحاولة مرة ثانية، ولم يحدث شيء. أخيراً ادرك أنه لم يفتح قفل الامان.
يقول: “فقدت الأمل، فالسيارة لا تدور والرشاشة لا تعمل ولم اكن استطيع رؤية شيء من حولي لأننا كنا نسير ليلاً بلا مصابيح.
وثب من السيارة البيكاب وقد تملكه الخوف، يقول: “لم أكن أفكر في أحد غير نفسي، لم استطع التفكير بأي شيء آخر. كل ما فعلته هو الامساك بالرشاشة والركض.”
بعد ذلك جاء مسلحون آخرون من “داعش” يقودون سيارة ثانية واخذوا يطلقون النار عليه وسط الظلام. يقول حمزة أنه استلقى تحت بعض الشجيرات الصحراوية وبقي هناك حتى ابتعدوا. بعد ذلك استمر في السير اسبوعاً الى ان انقذه بعض البدو الذين خرجوا ايضاً لجمع الكمأ.
بعد ثلاثة ايام وصل الى منزله ولكن بلا شقيقيه ولا ابن اخيه وهو امر اورث حمزة شعوراً بأنه قد خان العائلة. وبعد بضعة ايام عثر على الثلاثة مقتولين رمياً بالرصاص.
يقول حمزة: “اشعر بالحسرة تقتلني.” ويمضي مضيفاً ان تركه افراداً من عائلته وراءه يرقى الى منزلة الخيانة من ناحية العرف القبلي.
يتحرك حمزة الان على كرسي ذي عجلات لأن قدميه تضررتا بشدة خلال تلك المسيرة الطويلة حافياً. ينظر الى الرشاشة “أم 16” التي استولى عليها ويبدو عليه الحزن.
في الاوضاع العادية كانت مثل هذه الرشاشة ستعد غنيمة، ولكن حمزة يقول: “فقدت اثنين من اخوتي وابن أخي، كل ما فعلته هو النجاة بنفسي. هذه الرشاشة لا تعني شيئاً بالنسبة لي.”
أسند حمزة رأسه الى الجدار وأخذ ينتحب بصمت.