في إيران.. حرّ حارقٌ ونقصُ مياهٍ لا يرحم

بانوراما 2023/08/16
...

 فيفيان يي وليلي نيكونازار              

 ترجمة: أنيس الصفار                                              

طيلة شهر كامل وعشرة أيام من حرارة صيفيَّة لا هوادة فيها لم تعد "سبيده" (وهي طبيبة تقيم في جنوب إيران) أو زوجها طبيب الأسنان يغادران المنزل إلا للذهاب إلى عملهما، وذلك في الصباح فقط، أو لشراء ما يحتاجان إليه من محال البقالة عندما ينفد آخر ما في ثلاجتهما. ذات يوم في الاسابيع القليلة الماضية سجلت قراءة المحرار على لوحة القيادة لسيارتها 57 درجة مئوية .. فإلتقطت صورة للرقم وبثتها عبر انستغرام مع تعليق تقول فيه: "57 درجة لا أكثر".
على الأقل كان لدى "سبيده" جهاز تكييف هواء في منزلها، وتلك ضرورة لا تتيسر للجميع. فقد اجتمع الفقر، الذي اتسعت رقعته، مع تصاعد درجات الحرارة لسحق معظم مناطق جنوب إيران حيث تنضم الصحراء الشاسعة إلى الرطوبة الآتية من الخليج القريب في جعل تلك الانحاء خصوصاً عرضة لموجات حر وجفاف لا تفتأ تزداد قسوة جراء التغير

المناخي.

رغم أن قراءة المحرار تكون اوطأ في انحاء أخرى يبقى الشقاء كبيراً، لأن السبل أمام الإيرانيين للتعامل مع الموقف قليلة، لأن سوء إدارة الجهات المعنية للموارد المائية منذ وقت طويل جعل الحنفيات تصب ماء مالحاً او تنتهي إلى الجفاف، كما يقول الخبراء، فيما ساهم الركود الاقتصادي والتضخم الذي تصاعد مرتبتين عشريتين بتعميق حالة الفقر وجعل الوظائف داخل أبنية مكيفة بعيدة المنال بالنسبة

للكثيرين. 

تعاني إيران مما يسميه "كافي مدني"، خبير المياه في الأمم المتحدة ووزارة البيئة الإيرانية، من الافلاس المائي، وذلك عندما تفضي سياسات تنشيط الزراعة والتنمية غير الموجهة، كما يقول، إلى استهلاك المياه حد تجاوز القدرة على تعويضها لفترة طويلة بحيث لا يعود ثمة سبيل لعكس اتجاه عملية الاستنزاف.

بتلاشي المياه الجوفية والمخزونات تحت الأرض يستفحل الجفاف ويدفع التغير المناخي درجات الحرارة نحو الارتفاع. وفي المناطق الريفية يزداد العجز عن تحمل تكاليف المياه المنقولة بالصهاريح او شراءها من المحال التجارية التي لم يعد امامهم بد من اللجوء إليها. لقد كان نقص المياه عاملاً في اذكاء احتجاجات سنة 2021 في اصفهان التاريخية وخوزستان، إذ تصاعد السخط على الجهات المعنية لفشلها في مواجهة ظروف الحرارة القاسية.


الإفلاس المائي

من بين الذين يشكون نقص مياه الإسالة مرضى إلتقت بهم "سبيده" خلال هذا الصيف في القرى المحيطة بمدينة مسجد سليمان حيث تقيم غرب إيران. وقد وجد القرويون انفسهم مرغمين على اللجوء إلى الابار التي تغص بالجرذان والعضايا الميتة والصراصير.

تقول سبيده: "كل ما أراه حولي بؤس وفاقة. كم اتمنى لو كان بمقدوري أن أقول شيئاً يبعث على الأمل .. ولكن هذه هي الحقيقة."

يقول المسؤولون الحكوميون أن محافظة سيستان وبلوشستان الريفية الفقيرة في الجنوب الشرقي، حيث إدعى أحد اعضاء البرلمان مؤخرا أن الحرارة بلغت حداً جعل أحد مصابيح الشارع في المدينة ينصهر، وسوف تنضب فيها مياه البلدية تماماً بحلول ايلول المقبل.

في بندر كانجان الساحلية، جنوب غرب إيران، كان أمراً معتاداً ان تقطع المياه صيفا من أواخر المساء حتى الخامسة او السادسة من صباح اليوم التالي، بحسب عزام، 39 عاماً، المدرس المقيم في المدينة. لكن الماء لم يعد يصل إلى الحنفيات منذ سنوات، إلا لساعتين فقط صباحا ولا شيء من بعد ذلك. ويقول عزام:"نحن نملأ خزاناتنا وقد تعلمنا كيف نستخدم الماء بأدنى الحدود. ولم يعد هنالك ماء كي نهدره."

التكيف مع الحرارة اللاهبة والرطوبة الخانقة شيء وطّن الناس أنفسهم عليه في مناطق جنوب إيران منذ أمد بعيد، فهم لا يخرجون إلا في الصباح الباكر أو وقت متأخر من الليل للالتقاء باصدقائهم قرب الأنهار والقنوات لعلمهم أن المكوث لساعتين في مثل هذه الحرارة قد يعني الاصابة بالصداع والضعف والدوار وحروق يستعصي علاجها بمراهم الوقاية من أشعة الشمس، كما يعلمون ايضاً أن الرطوبة تجعل المرء يشعر وكأنه يستنشق بخاراً مع كل نفس يأخذه، وأنه حتى ماء الحنفية خلال النهار يمكن أن يسبب حروقاً، وأن الخف البلاستيكي إذا ما ترك في الخارج سيتشوه شكله بفعل حرارة الشمس، وأن النظارات الشمسية اذا ما تركت في السيارة خلال النهار يمكن ان تنصهر.


نذر تلوح

في منتصف شهر تموز الحالي امتزجت الرطوبة بالحرارة المرتفعة لتسجلا معامل حرارة بلغ 66 درجة مئوية في مطار "الخليج" على الساحل الجنوبي، وهذا يتجاوز بكثير الحدود التي يمكن للإنسان تحملها. أما بوشهر المحافظة الساحلية التي تضم بندر كانجان، فقد اغلقت مدارسها ودوائرها ليوم واحد خلال هذا الشهر تجاوباً مع توقعات وصول الحرارة إلى 50 درجة مئوية فيما قلصت ساعات الدوام لبقية

الأيام.

(ملاحظة: معامل الحرارة الذي يعرف ايضاً بالحرارة الظاهرية هو أحساس الجسم البشري الفعلي بالحرارة عند اجتماع تأثير الرطوبة النسبية مع درجة حرارة الهواء، وهذا المقياس مهم عند حساب الاعتبارات المؤثرة في راحة الجسم البشري– 

المترجم).

ولا يملك كثير من العمال خياراً سوى تحمل ضراوة الشمس. ففي مقطع فيديو نشرته على موقع تلغرام قناة تدعى "الاتحاد الحر للعمال الإيرانيين" ظهر رجل من مدينة عسلويّة، ضمن محافظة بوشهر، متحدثا عن اضطراره للعمل مكشوفاً تحت الشمس يوميا من الساعة 5 صباحاً إلى الساعة 7 مساء.

قال الرجل: "هذا هو وضعنا كعمال.. إننا نموت مئة مرة في كل يوم."

ابسط وسيلة للتعامل مع هذا الوضع، لمن يتمكن، هو الانزواء في مكان مكيف الهواء آملاً عدم حدوث انقطاع التيار الكهربائي، ذلك الشقاء الذي تبتلى به مناطق جنوب إيران كلما حل موسم صيف.

يعتقد أن سكان بلاد فارس الذين عاشوا على هذه الأرض كانوا رواداً في استخدام ما يسمى "مصائد الهواء"، وهي أبراج مرتفعة مهمتها جمع النسمات اللطيفة وتحويل مجراها إلى داخل الأبنية لتبريدها، كان ذلك قبل ظهور الكهرباء بآلاف السنين. لكن رغم ان "مصائد الهواء" اليوم قد عادت تستهوي المهندسين المهتمين بتغيرات المناخ في بلدان اخرى فإن مكيفات الهواء هي التي كسبت السباق منذ وقت بعيد في إيران

نفسها. 

تقول زهراء، 32 عاماً، وهي فنانة تقطن مدينة بندر دير على الساحل الجنوبي حيث لم تعد الحنفيات تلفظ خلال هذا الصيف سوى ماء مالحا لا يصلح للشرب: "نحن لا نكاد نغادر منازلنا، لذا لا يمكنني المقارنة بين حرارة هذا الصيف ومواسم الصيف التي سبقته. كل ما يمكنني قوله هو أن كل شيء يغلي." 


عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية