مجتمع في أزمة

آراء 2023/08/17
...

 د. أثير ناظم الجاسور


اعتاد المجتمع العراقي على أن يكون تحت المجهر، نتيجة الأزمات المتكررة، التي خلقتها له أنظمته السياسية منذ تأسيس الدولة ولغاية اليوم. عملية الإدارة في العراق طيلة هذه المدد الزمنية تطلبت من الماسكين بالسلطة أن يدوروا نتاجاتهم التي بالضرورة صبت في مصلحتهم، هذه النتاجات كانت وما زالت تحمل في طياتها مخرجات كارثية، تضمنت أخطر الخطوات، سواء في تقييد الحريات أو تبديد الامال والاخطر تمثل بالتفتيت الهوياتي

 لكن لم تكن السلطة هي من عملت ذلك من جانبها، فكان للمجتمع دور في إعطاء الشرعية لها بعد أن انقسم على نفسه وفق النظرإلى تلك المخرجات التي ولدت الازمات هذه، بالتالي كانت العلاقة بين المجتمع والسلطة لا تُقاس على أساس الحقوق والواجبات، بقدر ما هي عملية ايمان واعتقاد بنسق وعمل السلطة التي تحاول بناء نموذج يتناسب مع متبنياتها، وعليه كانت عملية انتقاء من قبل السلطة لشرائح المجتمع، بل صنعت محركات اجتماعية تعمل على تحسين صورة السلطة وخلق أجواء تتناسب مع إدارتها وإجراءاتها، بالمقابل كان النموذج الذي يحلم به المجتمع مختلفا تماما، فهذا النموذج صاحبه الحلم والتمني دون السعي الجاد إلى وضع الحدود والإجراءات التي تساعد على تحقيقه، والذي بالضرورة لم يتناسب مع حجم التمنيات، التي راحت أبعد من نموذج من الممكن تطبيقه بعد أن ساعدت الجماعات الاجتماعية من خلال تبنيها هويات تأطرت تارة بين الهوية القومية وتارة هوية دينية وأخرى ثقافية مصطبغة بالعراقية، التي كانت ولا تزال أضعف الهويات، من ثم الأزمة الأكبر التي واجهها المجتمع هو بناء الخصم وهذه العملية تمت من خلال بناءات فكرية استوطنت تفكير الفرد والجماعة بعد أن ثقفت لها وأطرتها سياسات السلطة والحاكمين، لتكون المرحلة الأصعب في عملية التعاطي مع القضايا الداخلية التي بالضرورة تعقدت، بسبب المؤثرات الخارجية التي لعبت دورا في تحديد الازمات وانطلاقها.

الذاكرة
أخطر الازمات التي يعيشها اليوم المجتمع العراقي هي الذاكرة المحملة بخزين ضخم من المعاناة والظلم والاستبداد واليأس، يقابلها خزين آخر من الكره والرفض والسير نحو الانتقام من خلال الشعور بفكرة أن ما يحدث وما يُدار هو للآخرين ومن قبل الآخرين ولا دور لهم فيه، لا بل حتى انسانيتهم تمت المشاركة فيها لاعتبارات الأفضل والمقدس والمُبجل ومسميات كلها كان لها الدور في وضع الإنسان العراقي في دورق الاختبار، وفوق طبق ساخن يدفع كل ما له علاقة بالخطر الموجه صوب ما تم ذكره من مسميات، يعيش المجتمع العراقي اليوم بين ذاكرة مليئة بالشحن والتقسيم والعداء بالمقابل يُراد منه أن يتصالح والسؤال يتصالح مع من؟، وإذا كان لهذا الشعب عدو فمن هو؟، بالتالي كان لا بد من رسم قواعد جديدة للتصالح النفسي والمجتمعي، فمن خلالهما يتم تسهيل مهمة التعايش سواء كتجمعات بشرية مختلفة أو هذه التجمعات مع السلطة، وهو ما يطرح قضية القدرة على حفظ التماسك في مجتمع يضم هذا الكم الكبير من التنوع والالتقاءات والاختلافات بنفس الوقت، هذا لا يعني أن عملية التأسيس هذه ستكون سهلة وبسيطة، فالذاكرة الاجتماعية العراقية متكون في مخيالها صراع الهويات الفرعية مع الهوية العراقية وكيف أصبحت في ما بعد قضية وجود واحدة تحاول محو الأخرى، وهذا الصراع متجذر حتى قبل تأسيس الدولة العراقية ولغاية اليوم بسبب التصدعات، التي جاءت نتيجة الإجراءات والممارسات التي تم اتباعها من قبل حكام العراق، إلى جانب ضعف الحركات الاجتماعية العراقية (المنادية بالهوية العراقية الواحدة).

سياسات الإلهاء
لربما نتفق من أن الأحداث التي مرت على العراق ساعدت في أن تشكل مجموعة من الحادلقات المتشابكة، ومن القضايا المعقدة التي بالضرورة هي مجموعة من القضايا أو من نتاجات النظامين السياسي والاجتماعي، فكلاهما اشتركا في علمية تخدير العقل الجمعي العراقي من خلال اتباع سياسات متضادة لا نفع منها، سوى إعطاء جرع من الأمل الزائف للشعب، بعد كل مرحلة من مراحل الدولة الصعبة والحرجة تمارس السلطة تحديداً دورها في إشغال التفكير المجتمعي بمجموعة من القضايا التي لا تسمح له بالخروج منها إلى أن يصل مرحلة القبول بسياسات الترقيع والحلول الانية في سبيل الخروج بأقل الخسائر، وتحديد عملية الإلهاء هذه في القضايا الحياتية اليومية، التي لا يمكن أن تفارق الفرد أو الجماعة كأن تكون في مجال الصحة والتعليم والأمن مروراً بالوضع المالي والمعاشي الخ ... من القضايا التي تمس حياة المواطن، والازمة هنا عندما يحاول المجتمع أن يكون ضمن هذه الدوامة لا يجرؤ على التفكير بأكثر من أن يستحصل حقوقه التي هي واجب على الدولة تحقيقها.
العدو
لم تتخلص اي سلطة أو حكومة تولت إدارة العراق من فكرة، أن لها أعداء يتربصون بها في الداخل والخارج، وهذا لا يعني أن الساحتين الداخلية والخارجية في كل دول العالم خاليتان من المتربصين وأصحاب المشاريع المضادة، لكن في العراق لا تستطيع أن تفرق السلطة بين العدو الذي يحاول تنفيذ أجنداته على حساب مصلحة الدولة وبين المعارض الذي يحاول تصحيح مسار العمل السياسي، وهذا بحد ذاته خلق معضلات كبيرة سواء في عملية الإدارة والتنظيم لعمل الدولة أو مسألة التعاطي مع الأفكار والتوجهات المنادية لوضع حلول للمشكلات التي تعاني منها الدولة، بالتالي الأزمة هنا في العراق يتم خلق نموذجين: الأول نموذج السلطة المقدس والمحرم المساس به مهما اعترته الأخطاء، والثاني نموذج المعارضة، سواء المنظمة بحزب أو تيار أو جماعة أو من خلال حراك احتجاجي أو المعارضة العامة المتمثلة بالارادة الشعبية، فكل عمل اعتراضي صوب عمل السلطة مُسجل أو يوضع في خانة العداء للنموذج الاول، ما يعمل على تعقيد القضايا وتصبح قضية تجريمه من البديهيات، بالمحصلة يتم تصنيفه هذا المعترض أو هؤلاء ضمن أعداء الوطن والتجربة مما، وهنا تبدأ الازدواجية في المعايير والتصنيفات والتقسيم والتحديد. اليوم كما هو الأمس بوابة الازمات مفتوحة على مصراعيها غير قابلة للغلق، وهذا نابع من غياب الارادة السياسية إلى جانب الكسل الاجتماعي، بعد أن استوطنت عند الطرفين أن كليهما لا يستحق العناء وبذل الجهد للتعديل، لكن هذا لا يمنع من أن ما يحدث في العراق اليوم وبعد تجربة دامت 20 عاما ستكون نتائجها غير مرضية للطرفين، سواء لمن في السلطة بعد أن تعددت الأخطاء لتكبر وتصبح معضلات خطيرة أو المجتمع الذي سيعاني من عملية انهيار تدريجية في مختلف التفاصيل، وعليه المسؤولية يتحملها الطرفين، ولا بد من وضع خطوط عريضة لمشروع وطني عراقي تكون عملية البناء فيه تشاركية والدور الأكبر يقع على عاتق الحكومة، التي لا بد من أن تعمل على المشكلات التي يعتبرها الكثيرون مزمنة، لا بد من وضع حلوب لها، وخلافه ستمتلئ الشوارع بالغاضبين المعترضين الذين لا رجعة لهم إلا بالتغيير.