سناء الوادي
لفت انتباهي منذ مدة ما قرأت عن رغبة الأمم المتحدة ومنظمة حقوق الإنسان في وضع مؤشرات جديدة تسبر قوانين حماية الأفراد بكينونتهم الإنسانية، وليس بوصفهم أعضاء في المجتمع والدولة، وفي حين أن أهمية مثل هكذا مؤشرات لأعمال حقوق الإنسان تلقى اهتماماً واسع النطاق، وبات جزء كبير منها متأصلا في معاهدات أبرمتها الدول وألزمت نفسها بها بأن تحفظ لكل شخص ينتمي إليها حياته وحقوقه المادية والاجتماعية وتصون كرامته من الامتهان
إلا أنها لا تزال قاصرة عن رؤية الواقع المعاش في كثير من الدول النامية، والتي تعدّ بعض الدول العربية في بوتقتها، خاصة بعد ما أصابها من الوهن والضعف إبان ما عصف بها من رياح «الربيع العربي»، ففي حين تفيد بعض التقارير المقدمة للأمم المتحدة عن التحسن الاقتصادي والاجتماعي الملحوظ في مجال الحوكمة وسيادة القانون عند البعض منها، إلا أنه في الوقت نفسه فإن أصوات المجتمع المدني ترسم صوراً مغايرة، قد تتلخص في تهميش المجتمع المحلي والاستبعاد والتمييز بين الفئات الاجتماعية والقمع السياسي وانعدام استقلال القضاء وإنكار الحقوق الاقتصادية والمعيشية للأفراد.
وفي حين أنه بات لزاماً على الطبقة السياسية الحاكمة في بلادنا العربية بعد كل الانتفاضات والحروب، التي عاصرناها أن تجعل من الإنسان محور السياسات الإنمائية وأن تعيد النظر في الأطر المنهجية والقانونية السارية لضمان المساواة والتوزيع العادل للمكاسب وتعزيز المساءلة والرقابة، بحيث يعيد لكل عربي شعوره بالكرامة الوجودية التي استبيحت منذ وقت طويل.
ففي السياق ذاته نشهد تعديلات دورية على المؤشرات الخاصة بالاقتصاد كتعديل خط الفقر في العام الماضي والمؤشرات المالية ومؤشرات البورصة وأسهم التصنيع وأسعار الطاقة وغيرها الكثير، لكننا لم نشهد العناية نفسها بمؤشرات الصحة النفسية للأفراد، بل إنه يتعدى ذلك للقصور الواضح عند الباحثين والمهتمين بإيجاد معايير وأدوات تُعنى بأعماق الإنسان والتي بالنتيجة تؤثر في اندماجه وتفاعله وعطائه لبلده، فالفقر لا يقتصر على الناحية المادية فقط، غير أن عدم حصوله على حصته من الغذاء والرعاية الصحية والكهرباء والماء وحماية حقه في الإبداع والاختراع، يندرج تحت لواء الفقر المعنوي الذي يعانيه الإنسان.
في بلادنا هناك سؤال مشروع يدور في أذهان غالبية الناس عن إمكانية وجود مؤشر يستطيع التقاط نبضات متسارعة لقلب طفلٍ مشرّد، يفترش الشارع داراً ومقاماً وهو يقف بواجهة أحد متاجر الألعاب يناظرها، فتأخذه المخيلة إلى حيث يشتهي ويرغب، وآخر يقيس مقدار الرحمة التي تكتنف قلوب الفاسدين وتجار الأوطان وهم يسرقون قوت الفقير وثروات الوطن ويتلاعبون بمقدراته.
هل من مقياس دقيق للإنسانية لا يقف عاجزاً عند صرخات الأمهات، الذين فارقوا فلذات أكبادهن أو مكلوماً أمام ثبات النساء وقوتهن، وهنّ يعاركن قسوة الحياة، ندّاً بندّ بعد ما غدون هن رب الأسرة، هل من أسهم نعطيها للشباب العربي البائس كتلك، التي تضارب في البورصة فيضارب بها على ما تبقى في جعبته من رذاذ طموحاته في مستقبل أفضل؟، وأين ذلك المؤشر الذي يسبر أغوار العدل في نصرة المظلوم، وردع الظالم وتكريم المبدع ودعم الحرية في الدين والمعتقد والانتماء؟.
ألم تفرز العقول النيرة ذلك المقياس الحسّاس لمدى حصول الإنسان على كرامته، عندما يرفع صوته مدافعاً عن حريته وحقوقه وكرامته واستقراره في وطنه؟، فيدوسه الوطن بكل عزمه وينبذه مدّعي الوطنية الذين يبيعون للناس الشعارات الواهية، ويشترون بثمنها القصور والسيارات الفارهة لأبنائهم.
ما أكثرها برامج المنظمات العالمية الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والاتفاقيات الدولية السياسية، وما أقلّها تلك التي تدخل في أعماق الإنسانية لتعرف مدى رضا الفرد عن نفسه في بلاده، ولا شك أن المواءمة بين الحقوق المقدمة للشخص والواجبات المترتبة عليه هي من تقوي الانتماء القومي عنده، فعندما يخرج من دائرة شعوره بأنه بقرة حلوب تستهلك كلّ حقوقه حينها فقط يمتلك روحية البذل والعطاء، ولربما حان الوقت لأن يعي السياسيون الممسكين بزمام الأمور أن الاستثمار في الصناديق الإنسانية، لا يقل أهمية عن الاستثمار في الصناديق السيادية، فالأولى تعني الاستقرار النفسي للقاعدة الشعبية في الدولة مما يضمن استمرارها وعلو شأنها المرتبط بتماسك الأفراد مع بعضهم وتمسكهم بوطنهم واعتزازهم به وبوجودهم في ربوعه.