أنتوني فايولا
 وكاترينا فرنانديز مارتينز
  ترجمة: بهاء سلمان

يطارد الإدمان فترات الاستراحة في مدينة بورتو الساحلية القديمة، حيث يرفع أشخاص بأياديهم الهزيلة المجعدة أنابيب زجاجية متشققة إلى الشفاه، ويزرقون الحقنة في الوريد. وتغلق السلطات الأزقة المكتظّة بقضبان حديدية، وتسيّج الحدائق لوقف انتشار أماكن لتجمع المتعاطين. وتتجذر عقلية الحصار في المناطق القريبة من الشقق السكنية باهظة الثمن والمنازل التي تقدر بملايين اليورو.
وكانت البرتغال قد ألغت تجريم جميع أشكال تعاطي المخدرات، بما في ذلك الماريجوانا والكوكايين والهيروين، كجزء من تجربة شجعت على جهود مماثلة في أماكن أخرى، لكن الشرطة الآن تربط بين ازدياد معدلات الجريمة مع ارتفاع أعداد الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات. في أحد الأحياء السكنية، توجد أدوات صادرة عن منشآت الدولة– من قبيل أغطية محاقن معروفة باللون الأزرق مع مسحوق، وعبوات من حامض الستريك تستخدم لتخفيف الهيروين، يتم سكبها على أرصفة إحدى المدارس الابتدائية.
وقامت شرطة بورتو بتكثيف دورياتها المختلفة الحركة في الأحياء الموبوءة بالمخدرات؛ ولكن بالنظر إلى القوانين الحالية، لا يوجد هناك الكثير مما يمكنهم فعله. فبعد ظهر أحد الأيام، نهض رجل نحيل يرتدي سروالا مقلما أمام مركز لتعاطي المخدرات، تموّله الدولة على دورية من أربعة ضباط شرطة، وجلس، ثم بدأ متحديا بملء أنبوبه الزجاجي المخصص لاستنشاق المخدرات، وتركه ضباط الشرطة مبتعدين عنه، وساروا وهم يهزون رؤوسهم.
أصبحت البرتغال أنموذجا للسلطات القضائية المتحررة في جميع أنحاء العالم، التي تتبنى إلغاء تجريم المخدرات، مثل ولاية أوريغون، ولكن هناك حديثا الآن عن حالة من الإعياء، فالشرطة أقل حماسا لتسجيل الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات بطريقة سيئة، مع فترات انتظار لمدة عام للحصول على علاج يساعد على إعادة التأهيل المموّل من الدولة، حتى مع انخفاض عدد الأشخاص الذين يطلبون المساعدة بشكل كبير. في الوقت نفسه، تدفع العودة الاجبارية لتعاطي المخدرات المرئي خصوصا  المناطق الحضرية بقوة عمدة المدينة والآخرين هنا إلى طرح سؤال انفجاري: هل حان الوقت لإعادة النظر في نموذج المخدرات المشهور عالميا لهذا البلد؟
«هذه الأيام في البرتغال، يحظر تدخين التبغ خارج المدرسة أو المستشفى، كما يمنع الإعلان عن الآيس كريم والحلوى السكرية، ومع ذلك، يسمح للناس بالتواجد في تلك الأماكن لتعاطي المخدرات. لقد قمنا بجعل الأمر طبيعيا،» كما يقول «روي موريرا»، عمدة بورتو.

تأثير كوفيد - 19
بلغ إنتاج الكوكايين مستويات قياسية عالمية، وتوسعت عمليات ضبط المواد المخدرة بشكل هائل. فترة وكانت فترة جائحة كورونا قد عمّقت المشكلة وأثقلت كاهل الأعباء الشخصية، لتنتج زيادة في تعاطي المخدرات. ففي الولايات المتحدة الأميركية وحدها، تجاوزت الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة، التي تغذيها المواد الأفيونية والفنتانيل الاصطناعي المميت، مئة ألف حالة خلال العامين 2021 و2022، أو ضعف ما كانت عليه في العام 2015. ووفقا للمعاهد الصحية الأميركية، يعاني 85 بالمئة من نزلاء السجون الأميركية من اضطراب تعاطي المخدرات النشط، أو تم سجنهم لارتكابهم جريمة تتعلق بالمخدرات أو تعاطي المخدرات.
عبر المحيط الأطلسي في أوروبا، بدا أن البرتغال الصغيرة لديها إجابة. فبحلول العام 2001، رمت البلاد وراء ظهرها سنوات طويلة من سياسات مدفوعة بالعقوبات من أجل تقليل الضرر من خلال إلغاء تجريم استهلاك جميع المخدرات للاستخدام الشخصي، بما في ذلك شراء وحيازة ما يكفي من تلك المواد السمية لمدة عشرة أيام. ويبقى التعاطي أمرا مخالفا للقانون من الناحية الفنية، ولكن بدلا من السجن، يتم تسجيل الأشخاص الذين يسيئون استخدام المخدرات من قبل الشرطة وإحالتهم على «لجان الردع». أما الأشخاص الأكثر اضطرابا، فيمكن للسلطات فرض العقوبات عليهم، بما في ذلك الغرامات والتوصية بالعلاج، وبعد ذلك كله يبقى قرار الحضور طوعيا.
انتقلت دول أخرى إلى إخراج جرائم المخدرات من نظام العقوبات، لكن لا أحد في أوروبا، باستثناء البرتغال، يضفي الطابع المؤسساتي على هذا الطريق. في غضون بضع سنوات، تراجعت معدلات انتقال فيروس نقص المناعة البشرية عن طريق الحقن، وهي واحدة من أكبر الحجج لإلغاء التجريم. وما بين العامين 2000 و2008، انخفض عدد نزلاء السجون بنسبة 17 بالمئة، كما انخفضت معدلات الجرعات الزائدة مع تدفق الأموال العامة من السجون إلى إعادة التأهيل، ولم يكن هناك دليل على زيادة مخيفة في التعاطي. وذكر تقرير بارز لمعهد كاتو صدر في العام 2009: «لم تحدث أية مشاهد تستعرض الرعب ،الذي توقعه معارضو إلغاء التجريم في البرتغال، والذي كان زملاؤهم يتذرّعون به في جميع أنحاء العالم».

دعوة للمراجعة
غير أنه ومنذ تمرير قانون إلغاء تجريم تعاطي المخدرات، ظهرت بعض الأصوات البرتغالية حاليا الداعية إلى إعادة التفكير في سياسة كانت لفترة طويلة نقطة فخر للإجماع العام على تجريم المخدرات، حيث تقول الشرطة إن الرؤية الحضرية لمشكلة المخدرات هي في أسوأ مراحلها منذ عقود، ويبدو أن المنظمات غير الحكومية التي تموّلها الدولة، والتي سيطرت إلى حد كبير على الاستجابة للأشخاص الذين يعانون من الإدمان، تبدو أقل اهتماما بالعلاج من التأكيد على أن تعاطي المخدرات مدى الحياة يجب أن ينظر إليه على أنه حق من حقوق الإنسان. ويقول «أنطونيو دا سيلفا»، رئيس شرطة بلدية بورتو: «في نهاية المطاف، وصلنا إلى تقييد صلاحيات الشرطة،» مضيفا أن الوضع الآن يمكن مقارنته بالسنوات التي سبقت تنفيذ إلغاء التجريم.
وتشير دراسة استقصائية وطنية صدرت حديثا إلى أن نسبة البالغين الذين تعاطوا المخدرات غير المشروعة قد ارتفع إلى 13 بالمئة في العام 2022، مرتفعا من ثمانية بالمئة في العام 2001، رغم أنها لا تزال أقل من المتوسطات الأوروبية. ويزداد معدل انتشار استخدام المواد الأفيونية عالية الخطورة في البرتغال عن نظيره في ألمانيا، ولكنه أقل انتشارا  بالنسبة لفرنسا وإيطاليا. ورغم هذا، هناك إقرار حتى من قبل أنصار إلغاء التجريم بوجود خطأ ما دفع لإباحة استخدام المخدرات في الأماكن العامة.

تقنين التعاطي
ووصلت معدلات الجرعات الزائدة إلى أعلى مستوياتها على مدى 12 عاما، وتضاعفت تقريبا في لشبونة من العام 2019 إلى 2023. وتظهر عيّنات الصرف الصحي في لشبونة أن اكتشاف الكوكايين والكيتامين، هو الآن من بين أعلى المعدلات في عموم أوروبا، مع وجود ارتفاع ملحوظ في المعدلات بحلول نهاية الأسبوع، مما يشير إلى كثرة الاستخدام الكثيف خلال الحفلات. أما في بورتو، فقد ارتفع حجم المخلفات المرتبطة باستخدام المخدرات ضمن شوارع المدينة بنسبة 24 في المائة بين عامي 2021 و 2022، مع تواصل هذا العام ليفوق بكثير العام السابق. وارتفعت الجريمة، بما في ذلك حوادث السرقة في الأماكن العامة، بنسبة 14 في المئة من العام 2021 إلى العام 2022، وهي زيادة تلقي فيها الشرطة بشكل نسبي على زيادة تعاطي المخدرات.
على الجانب الجنوبي من بورتو، تبرز حانات النبيذ بكثرة في المدينة، الواقعة على جانب التل، والكنائس التي تعود إلى فترة القرون الوسطى، وتفسح المجال لمجمعات سكنية عامة متراصة بشكل هائل. وعلى بعد مجمع سكني واحد فقط من المقر الرئيسي للشرطة، يبرز مبنى عريض، وهو عبارة عن مركز لتعاطي المخدرات تموّله الدولة، وتم افتتاحه على أمل منح الأعداد المتزايدة من المتسكعين في الشوارع الذين يعانون من إدمان الهيروين والكوكايين مكانا لاستخدامه بعيدا عن الأنظار العامة.
في هذا المركز كان هناك رجل يبلغ من العمر 47 عاما يحاول خلط رماد الهيروين مع شظايا من مادة الكريستال، مما أدى إلى تكوين خليط مخدّر. وقد لاحظته إحدى الممرضات كيف أنه أخذ الإبرة وحقنها في وريد بارز من رقبته، مشيرة إلى جفاف الاوردة الموجودة في يده. وقال شخص آخر من رواد المركز: «لا يمكنني تعاطي المخدرات في المنزل، فهي تسبب لي الكثير من المتاعب، لذا، أقضي ساعة ونصف للوصول إلى هنا بالسيارة».

تنسيق التعاطي
في الحي السياحي الذي يقع في ظل الكاتدرائية الشبيهة بالحصون في بورتو، قام أخصائي اجتماعي مع منظمة «ساوم» غير الربحية التي تموّلها الحكومية بتوزيع عبوات حقن نظيفة بين الأشخاص الذين يستخدمون الهيروين. وعندما تتوفر الأنابيب الزجاجية، يقوم الأخصائيون الاجتماعيون بإعطائها. ولأجل تلخيص هذه الفكرة، تقول «لويزا نيفيس»، رئيسة منظمة اجتماعية لمتابعة المخدرات برعاية الحكومة: «علينا احترام المتعاطين، فإذا كانوا يريدون تعاطي المخدرات، فهذا حقهم».
على بعد ثماني دقائق سيرا على الأقدام صعودا من مركز تعاطي المخدرات الآمن في بورتو، ووسط حي من المنازل الأنيقة المكوّنة من طابقين مع سياج مشجر مليء بالورود، يتحدث الجيران عن «غزو» الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات منذ جائحة كورونا. وكان البعض قد انجذّب نحو هذا الحي في وقت سابق، قادمين من مجمع سكني عام سيء السمعة، إذ كان قد صدر بحقه قرار قضائي بهدمه منذ ما يقرب من عقد من الزمان؛ وفي الآونة الأخيرة، حضر أناس آخرون إلى هذا الحي.
على مدار الثمانية عشر شهرا الماضية، ظهر مخيّم مخدرات قرب إحدى المدارس، كما تعرّضت المزيد من المنازل لحالات سطو. وأكّد أفراد من الحي بتعرّضهم لسرقة ملابسهم المغسولة وغيرها من الحوادث، ليطلق السكان حملة مراقبة، واستئجار حراس خاصين، وهو أمر نادر للغاية في أوروبا. وانتشرت الشرطة بقوة في المنطقة قبل عدة أشهر للقضاء على المتاجرين بالمخدرات، الذين يمكن اعتقالهم والذين يتم اعتقالهم. وتتمركز سيارات الدوريات الآن في هذا الحي، جارديم فلوفيال، على مدار 24 ساعة، كي لا تبقى هناك فرصة لمتعاطي المخدرات بالتواجد في المنطقة.
«لكن إلى متى؟» يقول «روي كاربا»، أحد مؤسسي جمعية «حي جارديم فلوفيال الخالي من المخدرات»، ويضيف: «علينا أن نفعل شيئا إلى جانب القانون. نحن نعلم أنهم لا يستطيعون البقاء هنا إلى الأبد؛ لكن ماذا سيحصل حينما تغادر الشرطة؟»
صحيفة واشنطن بوست الأميركية