آخـر معارك الثورة الأميركيَّة

بانوراما 2023/08/20
...

 براد ليندون

 ترجمة: مي اسماعيل

يرى عدد متزايد من المؤرخين أن آخر معارك ثورة الاستقلال الأميركيَّة ضد الحكم البريطاني وقعت في الهند؛ ومنهم- د. "كاثلين دوفال" أستاذة التاريخ بجامعة نورث كارولاينا؛ التي تقول: "ركز الباحثون التاريخيون الأميركان حتى وقت قريب وبشكل حصري تقريباً على وقائع حرب الاستقلال الأميركيَّة في المستوطنات الأميركيَّة الثلاث عشرة التي تمردت على الحكم البريطاني. وعلى وجه التحديد ما دار في ماساشوستس وفرجينيا. لكن توسيع البحث التاريخي في العقود الماضيَّة قاد للنظر الى حرب الاستقلال تلك على أنها "حربٌ عالميَّة".

نشرت دار سمثسونيان للكتب عام 2018 كتاباً تحت عنوان: "الثورة الأميركيَّة: حربٌ عالميَّة"؛ يضمُّ مجموعة من الاطروحات لسبعة عشر كاتباً من ثماني دول. قدّم الكتاب "وصفاً متعدد الأوجه ولكنه متماسكٌ عن الجغرافيا السياسيَّة الدوليَّة للثورة الأميركيَّة"؛ وفق ما جاء في تحليلٍ نُشرَ بمجلة "التاريخ الأميركي". وترى دوفال وغيرها من الباحثين أنَّ بطلي حرب الاستقلال الأميركيَّة، أي- بريطانيا وفرنسا؛ هما اللذان خاضا فعلياً معركتها الأخيرة بموقعة كودالور- الهند، في 20 حزيران 1783. وتمضي دوفال قائلة: "كان من المعروف دائماً دعم فرنسا لأميركا في حرب الاستقلال؛ لكنَّ ملك فرنسا قرر دخول الحرب من باب المعارضة لبريطانيا أكثر منها حباً للأميركان". 

كان للبريطانيين (ومستعمراتهم المنتشرة حول الأرض) أعداءٌ أكثر من فرنسا لوحدها، وكان كفاح الأميركان لنيل الاستقلال طريقة لمضايقة بريطانيا على جبهة أخرى. كما انضمت اسبانيا وهولندا الى فرنسا في القتال. يقول "دون جليكشتاين" وهو صحفي ومؤرخ من سياتل غطى الموضوع بعمقٍ في كتابه: "ما بعد يورك تاون" عام 2015: "إذا نظرنا للقضيَّة من وجهة النظر الفرنسيَّة؛ فإنَّ قيام الفرنسيين بدورٍ في الثورة الأميركيَّة سهّل عليهم إمكانيَّة توسيع انتشار القوات البريطانيَّة في مكانٍ آخر حول العالم".


صراعات متجددة

كانت فرنسا وإسبانيا تحاولان أيضاً تصفية حسابات من الصراع العالمي السابق الذي خسراه قبل عقدٍ من الزمن: حرب السنوات السبع، والتي كانت الحرب الفرنسيَّة والهنديَّة (التي دارت رحاها في أميركا الشماليَّة) جزءاً منها؛ كما تقول دوفال. في تلك الحرب (التي بدأت بين أعوام 1754 - 1756) ألحقت بريطانيا الهزائم بفرنسا وحليفتها اسبانيا حول العالم؛ من المحيطين الهادي والهندي الى البرتغال وكندا. لكنَّ تلك الانتصارات كان لها ثمنٌ باهظ؛ كما يقول موقع مكتب وزارة الخارجيَّة الأميركي: "كانت الحرب مُكلفة جداً، وأدت محاولات الحكومة البريطانيَّة لفرض الضرائب على سكان المستوطنات الأميركيَّة (للمساهمة بتغطية نفقات تلك الحرب) بتصاعد نقمتهم تجاه المحاولات البريطانيَّة لتوسيع السيطرة الامبرياليَّة في المستعمرات". وقادت تلك الضرائب على المستعمرات في خاتمة المطاف الى اندلاع الحرب الثوريَّة.


معركة "يورك تاون"

خلال معظم تاريخ أميركا البالغ 247 عاماً، كان التعليم يذكر أنَّ المعركة الأخيرة لحرب التحرير جرت في يورك تاون - فيرجينيا؛ للفترة من 28 أيلول (سبتمبر) إلى 19 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1781. لكنَّ جليكشتاين يرى أنَّه حتى وصف معركة يورك تاون بالنصر الأميركي أمرٌ مبالغٌ به؛ قائلاً: "يدرس الأطفال أنَّ معركة يورك تاون كانت نصراً أميركياً؛ لكنها في الحقيقة نصرٌ فرنسيٌّ؛ تحقق بفضل استراتيجيَّة فرنسيَّة واسطولين فرنسيين ومهندسي حصار فونسيون، ومدفعيَّة فرنسيَّة دكت مواقع البريطانيين. والمعركة خاضها عموماً جنودٌ فرنسيون وجنود بحريَّة وبحارة فاقت أعدادهم أعداد حلفائهم المتمردين الأميركيين بنسبة أربعة إلى واحد". وتذكر مصادر "خدمة المتنزهات القوميَّة" أنَّ نحو ستمئة جندي فرنسي قتلوا في معركة يروك تاون والمعركة البحريَّة المتصلة بها؛ بينما لم يُقتل سوى نحو مئة أميركي هناك. أما "متحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الأميركي" فيصف المعركة بالتالي: "لم يكن ذلك نصراً للأميركيين فحسب؛ بل للحلفاء. فاق عدد الجنود الفرنسيين عدد الأميركان؛ ودعمت اسبانيا والجمهوريَّة الهولنديَّة ((حينها)) المستوطنين مالياً ولوجستياً". وفي مقابلة مع مجلة سميثسونيان وضع المؤرخ "ديفيد أليسون" من المتحف المساعدات الخارجيَّة لواشنطن في نطاق أوسع؛ قائلاً: "لم تكن المستعمرات ستحصل على استقلالها بدون دعم الحلفاء، ونحن الأميركان ضيقو الذهن للغاية في نظرتنا إلى تاريخنا القومي؛ وكأننا قررنا مصيرنا بمفردنا.. لكن ذلك لم يكن حقيقياً أبداً".

لا يجادل إلا قليلون بأنَّ خسارة معركة يورك تاون دفعت بريطانيا للسعي للحد من خسائرها.

وبدأت في باريس محادثات سلام قادت الى توقيع اتفاقيَّة سلام مبدئيَّة بين المستعمرات وبريطانيا أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1782. لكنَّ الأخبار سافرت بسرعة السفن المُبحرة الى أقاصي امبراطوريات الخصمين الرئيسيين: بريطانيا وفرنسا. واستمرت المعارك بعد يورك تاون بين فرنسا واسبانيا وبريطانيا في مواقع أخرى؛ مثل- جامايكا وجبل طارق والهند. 

يؤكد جليكشتاين أنَّ السيطرة على الهند كانت جائزة أكبر بكثيرٍ بالنسبة لبريطانيا مما تعنيه السيطرة على أجزاءٍ من أميركا الشماليَّة؛ إذ كان المُستعمِرون البريطانيون يلهثون وراء مواردها، مثل الحرير والقطن والمنسوجات والتوابل والشاي والأفيون والأحجار الكريمة. ويشير المؤرخون الى أنَّ النهب البريطاني لثروة الهند خلال سنوات الاستعمار حوَّل اقتصاد الهند من نظير يقارب اقتصاد أوروبا إلى كيانٍ أصغر بكثير. يمضي جليكشتاين قائلاً: "أراد البريطانيون كل ما كانت الهند تنتجه"؛ مضيفاً أنَّ الموقع الاستراتيجي للهند كان يعني أنَّها قاعدة يمكن للبريطانيين منها حماية طرق تجارتهم الى المحيط الهادي وآسيا.


حرب عند أطراف العالم

كانت بريطانيا (وبدرجة أقل - فرنسا) قد رسخت وجودها بشكلٍ جيدٍ في المستعمرات بالهند عندما بدأت الثورة الاميركيَّة، وقد نقل الاثنان بالفعل خلافاتهما من أوروبا الى شبه القارة الهنديَّة؛ وفق وثائق متحف الثورة الأميركيَّة في فيلادلفيا: "حينما دخلت فرنسا الحرب عام 1778 بصفتها حليفة لأميركا؛ تحركت شركة الهند الشرقيَّة البريطانيَّة مباشرة لمهاجمة مستعمرات فرنسا في الهند؛ الأمر الذي جرَّ الحلفاء الهنود لكلا البلدين إلى القتال". وهكذا باتت الحامية الفرنسيَّة وحلفاؤها الهنود في كودالور على خليج البنغال هدفاً مهماً للبريطانيين أواخر حزيران عام 1783. وقع القتال براً وبحراً، وتُعدُّ معركة كودالور البحريَّة يوم العشرين من حزيران نصراً للفرنسيين. وعلى الأرض حاولت القوات الفرنسيَّة المُحاصرة الهجوم على الجنود البريطانيين حولها يوم 25 حزيران ولكنْ جرى صدُهم. وأمر الادميرال الفرنسي سفنه بالاستعداد لقصف القوات البريَّة البريطانيَّة دعماً للقوة الفرنسيَّة على الأرض؛ ولكنْ قبل أنْ يحدث ذلك.. "ظهرت سفينة بريطانيَّة على الأفق وهي ترفع علماً أبيض".. كما يروي جليكشتاين: "حملت السفينة معها أخباراً أنَّه قبل ستة أشهر في باريس وقّع البريطانيون والفرنسيون والأميركان (وبعدهم بقليل - الهولنديون) معاهدة باريس التي أنهت الثورة الأميركيَّة.. وهكذا فإنَّ معركة كودالور بالهند كانت بالفعل آخر معارك الثورة الأميركيَّة".


موقع "سي أن أن" الأميركي