عقلانيَّات السياسة

آراء 2023/08/21
...

  ابراهيم العبادي

تجارب الدول ودروس التاريخ المعاصر هي ما تغري الباحثين الجادين ومنهم بعض الدبلوماسيين العراقيين من ذوي الهمم والبصائر، للتعلم منها ونقلها إلى الوسط العراقي، ابتداء عبر النخب المتعلمة ذات الاهتمام، ومنها إلى الأوساط السياسية والمتحزبة، لعلها تستفيد في بناء ثقافتها السياسية فتنتقل من الاحادية والجمود، نحو الإدراك المعمق والدراية المنفتحة والتواضع المعرفي والعلمي، علها تسهم في انضاج وتطوير التنمية السياسية الجارية في العراق.
وهي تنمية مشوبة بالفوضى الحزبية والصراعات المتعددة الاشكال، والاستعمال الواسع للمال السياسي مع فساد كبير.  ولعل التجارب التي تطرح من خلال ندوات مراكز البحوث جديرة بالاهتمام.
واكتسبت ندوة مركز البيدر الاخيرة أن القائم بالأعمال الالماني كان مشاركا فيها بحماس كبير، وكانت كلماته تدعو الحاضرين إلى استلهام التجربة الالمانية التي يتحدث عنها بفخر واعتزاز، مشيرا إلى أن الشعب الالماني في الشطر الغربي تقبل الكلفة الاقتصادية للوحدة الاندماجية عن طيب خاطر والبالغة 1500 مليار دولار، لأن المانيا دولة محورية مهمة، وهي قاطرة الاستقرار والنهوض الاقتصادي في أوروبا، كما العراق الذي لا يقل قيمة ستراتيجية في موقعه ومحيطه الجغرافي وتاريخه وديموغرافيته المتنوعة.
سلسلة الندوات هذه التي تركز على تجارب عالمية مهمة في البناء السياسي والاقتصادي والانتقال الديمقراطي، تطرح تساؤلات جادة عن طبيعة الثقافة السياسية في العراق وخصائصها ودورها في ما حدث ويحدث راهنا من انتكاسات وفشل، فليس سرا القول إن أحد اكبر مشكلات العراق التاريخية هي معتقدات العراقيين السياسية والنزعات والأهداف والقيم، التي يسعون إلى تمثلها في واقعهم السياسي والاجتماعي، حيث ينوس المؤشر بين المثالية المفرطة والواقعية المحبطة.
لقد حلت بالعراق حوادث ونوازل وكوارث كبرى، ومتغيرات ومنعطفات اكثرها دامٍ وعنيف، وكل نازلة منها تشع دروسا ملهمة لتفادي المزيد من الاخطاء والسياسات الحمقاء، ولا نبالغ إذا قلنا إن التنشئة السياسية في العراق تتحمل وزر الكثير من السلوك السياسي المفعم بالارتجال والتهور والمغامرات والاندفاعات (الثورية) غير المتزنة، بينما تتوارى الاتجاهات العقلانية وتقمع سلطويا أو تهمش اجتماعيا بسبب غلبة نموذج الانفعال السياسي الذي يتسم به العراقيون.
فائدة الإطلاع على تجارب الشعوب والدول الاخرى في العالم، انها توفر معرفة ناجزة تحفز في مقاومة التحديات والصعوبات والاطلاع على مسارات الحلول وتحقيق التطلعات والأهداف.
تتضافر التجارب الدوليَّة تجربة بعد أخرى في مواجهة تغلغل الفساد وتغول المال السياسي، وانتشار ما فيات التربح والزبائنية، وكل هذه النماذج العالمية مدعاة للدراسة والتبصر والمحاكاة والاحتذاء، فما زلنا في العراق نخطو الخطوات الاولى بين تعثر ونجاح نسبي للافلات من طوق محكم من الأزمات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما من بلد تجاوز منعطفاته التاريخية بدون وعي سليم وارادة سياسية، لدى كتلته التاريخية واجماع وطني على أولويات ومفاتيح حلول لتحقيق النهوض والاقلاع في مشروع التنمية الشاملة (التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية) باشتراطاتها الكبرى، المتمثلة بالرأسمال الاجتماعي والبشري والأدوات المادية والأمن الداخلي والبيئة الخارجية المواتية.
الآن حيث يسود إجماع داخلي بأن العراق يحتاج إلى التركيز على تحديات البناء الاقتصادي ومواجهة تغيرات المناخ، من جفاف وتصحر وتلوث وأمراض وفقر وبطالة، وهي تحديات كبرى، تحتاج إلى استقرار سياسي وامني لمعالجتها، ومشاركة وطنية وحوكمة حديثة فعالة لتجاوزها، وتعاون إقليمي ودولي للتغلب على صعوباتها وعراقيلها، لا تزال الثقافة السياسية تحبط وتمنع التوفر على مشروع وطني كالذي انجزته المانيا، أو كالذي حققته رواندا، أو كالنجاح الذي تحقق لجورجيا في مكافحة الفساد، أو كما حققته اقتصاديا ماليزيا واندونسيا وتايلند وفيتنام والهند وتركيا وشيلي، وكل هذه الدول لها مساراتها وتجاربها في البناء الدستوري والتنمية السياسية، قبل ان تنجح في البناء الاقتصادي. بناء الاقتصاد له شروطه الضرورية سياسيا وامنيا وثقافيا.
أمامنا شوط طويل للتعلم شريطة الانفتاح على تجارب العالم وتجاوز الوعي المسموم بفرادة الحالة العراقية، والتعكز المضر على الخصوصية، فليست الخصوصية مانعة من استلهام تجارب الاخرين، بقدر ما تكون حجابا يمنع التبصر والقراءة الواعية ويبرر العجز والفشل.
تميل ثقافتنا السياسية إلى اعتماد الذاكرة ومسلماتها التاريخية، وتعتمد النزوعية وتحويل خطوط الصراع والتنافس على السلطة إلى تصدعات كبيرة، تمنع من التوافق على المشتركات، وتقديم المصالح الوطنية الكبرى على ما سواها، وحتى يحصل انعطاف في هذه الثقافة، تظل النخب ومراكز الابحاث ومنابر التثقيف مكلفة بالسعي الحثيث للترويج إلى عقلانيات التفكير السياسي، بدل الاجتياح المسطح للعقول، الذي تمارسه قوى ومنابر تتسيد الساحة.