ماذا لو جفت أنهار بلاد الرافدين؟

آراء 2023/08/23
...

ثامر عباس

لا يخفى أن غالبية المدن التاريخية ذات الباع الحضاري الطويل كانت قد أقيمت عند سواحل البحار أو على مجاري الأنهار، وهو الأمر الذي جعل مصيرها التاريخي والحضاري مرتبطا ومقترنا بمصير تلك البحار والأنهار، سواء في ما يتعلق بضمان أمنها الإقليمي والسكاني، أو في ما يتصل بتأمين مصادر احتياجها الاقتصادي والتجاري.ولعل مدن العراق منذ عصور ما قبل التاريخ ولحد الآن تعد شاهدا على مصداقية هذا الاستنتاج الانثروبو- ايكولوجي
حيث تغيرت في العديد من الحالات مصائر الكثير من المدن، التي شيدها الإنسان العراقي القديم على ضفاف نهري دجلة والفرات، اثر التحولات الطوبوغرافية التي تعرضت لها مجاري النهرين على مدى مئات وآلاف السنين، ناهيك عن تواتر ظاهرة الفيضانات الموسمية، التي كانت من جملة عوامل اندراس تلك المدن واندثار حضاراتها.
وعلى الرغم من فداحة الأضرار التي ألحقها كل من النهرين المذكورين (دجلة والفرات) بمدن العراق وسكانها، سواء في حالة تحول مجراهما وتغير مسارهما، أو في حالة ارتفاع مناسيب مياههما والتسبب بحصول فيضاناتهما المدمرة، على مدى قرون، للحدّ الذي ان آثار ذلك النفسية والسلوكية والفنية تغلغت عميقا بين طيات الذاكرة التاريخية وضمن مخزون المتخيل الجمعي العراقي. بيد أن حرارة عشق العراقيين لهذين النهرين لم تفتر، رغم تعاقب الحقب وتناوب الأجيال، لا بل أن تغني الشعراء والأدباء بهما وتقريظ الجغرافيين والمؤرخين والآثاريين لهما - لاسيما حيال أهمية دوريهما في صيرورة الحضارة العراقية المؤمثلة، وسيرورة تاريخ جماعاتها ومكوناتها المطلسمة - قد تضاعف وتعاظم مع مرّ الأيام وتوالي السنين. للحدّ الذي يبدو أن أي دراسة تتناول قضايا المجتمع العراقي – ماضيا وحاضرا- لا تضع باعتبارها تلك العلاقة العضوية والرابطة الجدلية بين ثالوث (الجغرافيا – الايكولوجيا – الانثروبولوجيا)، سيكون مصيرا الفشل.
ولعل هذا التمجيد والتخليد المفرط لهذين النهرين متأت من واقعة استبطان الوعي الجمعي العراقي لحقيقة قد تبدو غير مدركة من قبل البعض مفادها بأن مصير الكيان العراقي (أرضا وشعبا وحضارة) مرتهن ليس فقط بوجود النهرين جغرافيا وطوبوغرافيا فحسب، وإنما مرتبط بضرورة تعافيهما الايكولوجي وغنائهما الإحيائي أيضا. ولكن، وبالرغم من كل هذا الاحتفاء التقريظي الذي يبديه العراقيون حيال ما يزعمون من أهمية لدور النهرين المذكورين، فإن الأمر لا يخلو من المفارقات والتناقضات، التي بات المجتمع العراقي (خبير) بإنتاجها وترويجها على نحو لا يحسد عليه.
إذ بقدر ما يبدو أن العراقيين حريصون على سلامة شرياني بلاد الرافدين وضمان تدفق نسغ الحياة فيهما (الماء)، بقدر ما يبرهنون عمليا وفعليا على زهدهم بأهميتهما وتبخيسهم لقيمتهما، عبر الكثير من الممارسات الضارة والفعاليات المدمرة، التي لا تقتصر فقط على (الهدر) الاعتباطي لمياههما الشحيحة أصلا فحسب. بل وكذلك تعمد الإساءات اليومية لحوضهما عبر تحويلهما إلى مكب عام للنفايات؛ سواء برمي الأنقاض والأوساخ فيهما، أو بإقامة المشاريع السكنية والترفيهية العشوائية على دفتيهما، دون تخطيط مديني مدروس أو اعتماد ضوابط حضرية ملزمة، بحيث بات يعانيان الاختناق في المسار الجغرافي والضيق في المجال الطوبوغرافي، فضلا عن استشراء مظاهر التلوث في صلاحية ماء النهرين للاستهلاك البشري مع القضاء على تنوعهما الإحيائي والايكولوجي.
وبدلا من أن تهتم الحكومات (الوطنية) المتعاقبة بإنشاء السدود على مجاري تينك النهرين العظيمين وتحسين شبكات الري، تحسبا للظروف الطارئة والأوضاع الاستثنائية – كما هي الحال في الآونة الأخيرة – من جهة، ولضمان نجاح الخطط والمشاريع التنموية في المجالات الصناعية والزراعية، ومن ثم تحقيق الاكتفاء الذاتي في مضامير الأمن المائي والغذائي للعراق من جهة أخرى. فقد تماثلت مواقف تلك الحكومات (اللاوطنية) وتشابهت إجراءاتها في ما يتعلق بإهدار تلك الثروة والتفريط بقيمتها الحيوية، على النحو الذي سمح لدول الجوار الجغرافي (تركيا وإيران) بممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية عبر سياسات (التعطيش) المتعمدة، كلما دعت الحاجة لإجبار العراق على الرضوخ لاملاءات هذا الطرف والاستجابة لشروط ذاك، للحدّ الذي بات معه مستقبل بلاد الرافدين رهينة للمصالح الإقليمية والدولية، التي لن يهمها ما سوف يحيق بمصير العراق من خراب حضاري ويباب إنساني، لا سيما أن مخاطر جفاف الأنهار، ومظاهر التصحر، والاحتباس الحراري، والتغييرات المناخية، باتت واقعا قائما لا تفتأ تهدد وجودنا بأية
 لحظة!.