ساطع راجي
في التاسع من آب الحالي، استخدم المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك مصطلح «عصر الغليان» بعد جولة في العراق لمراقبة الحالة البيئية للبلاد، كانت درجات الحرارة في معظم مناطق البلاد تقارب الخمسين مئوية، واعتبر تورك هذا «إنذارا للعالم»، وسبق للامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش أن استخدم مصطلح «عصر الغليان» في أواخر تموز الماضي، مما يعني أن التصنيف البيئي هذا أصبح في حيز التداول السياسي ويتطلب قرارات سياسية للتعامل معه.
التحدي البيئي يشمل العالم كله، لكن العراق ودولا قليلة أخرى تتعرض للتأثر السريع والواسع بهذا التحدي، نظرا لعدم وضعه في الأولويات العليا لصناعة القرار السياسي، رغم تأثيره اليومي والمباشر الذي عبر عنه بحرقة المفوض السمي فولكر تورك، فارتفاع درجات الحرارة يهدد الحياة اليومية للعراقيين بشكل مباشر، ويعرض اقتصادهم وتوزيعهم على أرض البلاد للخطر، فالأزمة المائية تهدد الاستقرار السكاني وتعرض المدن لضغط النازحين الجدد، بينما هي أصلا تعاني من تردي الخدمات والزحام في السكن والتنقل.
أسباب كثيرة وراء هذا التدهور البيئي واتهامات وحملات تحريض وصخب إعلامي يدار يوميا لأغراض سياسية، لكن في المقابل لا تطرح الجهات الرسمية والمجتمعية أي برنامج للتعامل مع هذا الخطر الكبير الذي يطرق أبوابنا بقوة.
لا خطر يوازي الخطر البيئي في تهديده للمجتمعات، الهجرات الكبرى للسكان والحروب الدولية والأهلية الفاصلة، وحتى ظهور بعض العقائد أو انتشارها السريع كان بتأثير الانقلابات البيئية، فالطبيعة دائما صاحبة الكلمة العليا في تحديد مسارات الانسانية، مهما كانت الأقنعة الثقافية والسياسية التي تريد تغطية الدافع الطبيعي للسلوك الانساني سميكة، لتخلق تبريرات تحاول إخراج الحلول الانسانية لمصائب الطبيعة من سياقها ولتمنحها «عمقا» يبرر القسوة، التي يستخدمها البشر ضد بعضهم البعض للحفاظ على حياتهم أو تحقيق درجات عليا من الرفاه.
في الأزمات البيئية الكبرى، تتحرك أمم كاملة بحثا عن مصادر العيش والمكان الآمن طبيعيا، بينما تندثر أمم أخرى سواء لعدم قدرتها على الحراك خارج الرقعة الجغرافية للأزمة، أو لعدم قدرتها على ردع النازحين إلى رقعتها الجغرافية الآمنة والسليمة والثرية، لكن الهجرات الجماعية لم تعد ممكنة على الأقل منذ بداية القرن العشرين، مع ترسخ قوانين الجنسية والحدود الدولية، ومنذ ذلك الوقت صادف إن العالم لم يشهد أزمات بيئية كبيرة لكننا اليوم نقترب سريعا منها.
لم تعد الحلول القديمة لمواجهة الكوارث الطبيعية متاحة، وهو ما يعني ضرورة ابتكار حلول جديدة، اعتمادا على التقدم العلمي والذي يحتاج إلى إرادة وتخطيط وأموال، وهي كلها أمور تفتقر لها الدول الأكثر تعرضا لمخاطر (عصر الغليان)، ومنها العراق ولذلك يبدو من المستبعد أن توفر حكومات هذه الدول خططا استثنائية لمواجهة الكارثة، وبالتالي من المرجح أن يكون عصر الغليان بداية لمرحلة جديدة من التدخل الدولي (عبر الامم المتحدة غالبا)، لمنع تمدد التداعيات السكانية والاقتصادية للكارثة البيئية ولحماية مناطق الجذب السكاني (أوروبا وأميركا الشمالية) من الهجرات الواسعة، إلى جانب حفظ إستمرارية تدفق الموارد (النفط والغاز وغيرها) من المناطق المهددة بالغليان البيئي والبشري.
إن قدرة حكومات الدول المهددة بالغليان على تنظيم الدور الدولي وتحديد تأثيره في سياقات واضحة ووضع مسارات تعاون لمواجهة الخطر البيئي، هو السبيل لقدرتها على الحد من المخاطر السياسية والاجتماعية للدور الدولي، ومرة أخرى ستضطر بعض الدول المثقلة بالمشاكل للسير فوق سلك مشدود يفصل بين ما هو سلبي وإيجابي للادوار الخارجية.