د. حامد رحيم
بدأت الحكاية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وولادة النظام العالمي الجديد، اذ صارت أغلب القضايا الكبرى محط معالجة خارجية من قبل زعامات النظام الجديد، أي إنها لم تعد شأنا داخليا، كيف تتعامل الدولة مع رعاياها؟ كيف تتعامل مع مواردها الاقتصادية؟ بالخصوص تلك التي تعتمد عليها الدول الكبرى في اقتصاداتها وبوجه أخص (مصادر الطاقة)، آلية فض النزاعات الداخلية فضلا عن تلك التي تنشب بين أكثر من دولة، الحدود، حقوق الانسان، مصادر المياه وغيرها، وصار لكل محور مرجع مؤسسي أممي كمجلس الأمن والجمعية العمومية، وما تنبثق من الأمم المتحدة من منظمات تهتم بكل المحاور سالفة الذكر.
وقد أخذت قضية (التخلف) موقعا مميزا في ذلك، فبعد أن كانت إرهاصات التخلف تشكل معاناة داخلية وعبئا مستداما بانتظار ملامح حلم (التنمية الاقتصادية)، صارت تلك المشكلات محط معالجات ضمن مؤسسات دولية، على رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان وغيرها، وبطبيعة الحال لم تخل القصة من جانب منحاز يراعي المصالح العليا للدول الكبرى عند النظر بكل تلك القضايا، مع جانب أيديولوجي واضح جدا في تسويق الفكر الليبرالي عموما واقتصاد السوق الحر، وصفات جاهزة عدت معايير تحدد من خلالها ما هو الأنسب لتلك الدول المتخلفة، لغرض الخروج من عنق زجاجة حلقات التخلف المستدامة، وتحقيق حلم التنمية الاقتصادية، وهذا ما عكسته سياسات التثبيت والتكييف الهيكلي للمؤسستين انفتا الذكر.
وبما أن للحكاية وجوها أخرى فصولها حالة التداخل بين الملفات المتعددة الاقتصادي منها والسياسي، عكسته حالة الصراع بين القطبين الاشتراكي والرأسمالي، لينتقل بعد انهيار القطب الاشتراكي الى حالة التمترس بالضد من العولمة من قبل الأمم والشعوب ذات الكيانات المعتدة بنفسها وهويتها القومية، وصعود نجم الإسلام السياسي الراديكالي، تشكلت ملامح اللوحة (الرمادية) للتنمية الاقتصادية ومثلها (شعارات القوة)، التي تسوقها دول الصد (اذا جاز الوصف) لتقدم نموذجا (كاذبا) للتنمية عبر شعارات مثل (سودان التنمية) في زمن البشير و(سوريا الأسد) في ظل حكم ال الأسد و(ليبيا الخضراء) في زمن القذافي و(عراق الصمود) في زمن البعث، وغيرها وكلها شعارات زائفة يقبع تحتها مجتمعات تعاني الامرين من الويل والثبور نتيجة للأنفاق العسكري والأمني، وسوء توزيع الثروة على حساب الرخاء الاقتصادي المفترض تحققه في ظل التنمية الاقتصادية، نعم المظهر لتلك المجموعة من الدول كان يشير الى الاستقرار النسبي وماكنة عمل وإنتاج لكن لم يكن للإنسان موقع في غايات تلك الأنشطة الاقتصادية، ناهيك عن العوامل الأخرى الدالة على التحولات المفترضة، وفقا لأدبيات التنظير التنموي، وهنا المقصد بالحالة الرمادية اذ مثلت عدم الحسم وضبابية التصنيف (وتشويش) اعلامي سلطوي يسوق كل السياسات المتبعة على أنها منجزات تنموية معتبرين ممانعتهم منجزا بحد ذاته. اما النصف الثاني من اللوحة الرمادية، فقد مثلته دول الانصهار والتماهي، سواء من هم بالأصل مثلوا هذه الحالة او من شملتهم رياح التغيير السياسي، ليتحولوا إلى أدبيات الاندماج والتواصل وترك سياسات (الصد)، فقد كانت الريشة هذه المرة بيد المؤسسات الدولية المعنية بشؤون التنمية لتقوم بتجميل لوحة الأداء الاقتصادي عبر تسويق المؤشرات بأسلوب فضفاض يفتقر الى الرصانة بالتحليل ( الأعلى نموا، هناك عزم لمعالجة المشاكل، معدلات التضخم ضمن الحد المقبول...الخ) ولم يتم التركيز على ملفات ضياع التعليم وسوء توزيع الدخل وضعف انفاذ القانون والفساد وعقم سياسات التشغيل وغيرها، فصار الحديث في التقارير عن مفاهيم مضللة عبر نعت تلك الدول المتخلفة (بالنامية) او(الأقل نموا)، وهذا غير صحيح فما الذي يبقى للدول التي قطعت أشواطا في التنمية مثل النمور الآسيوية؟ إن كانت دول الفساد والفشل الاقتصادي هي النامية! ويقبع خلف ذلك العامل السياسي وعامل الاستقطاب وصراعات الكبار.
الخلاصة: إن الفكر التنموي صنع منطقة بيضاء مثلها التحسن بالمؤشرات التنموية، كالصحة والتعليم والصناعة والقدرة التنافسية ومعدلات الفقر ومستويات التشغيل وغيرها. وأخرى سوداء مثلها التراجع بالمؤشرات آنفا، وما عدا ذلك هي محاولات لتسويق منطقة رمادية تغلف الفشل الاقتصادي بمفاهيم تنموية زائفة.