عواطف مدلول
موضوع التوحد الذي تناولته صفحة (ولد وبنت) خلال العددين السابقين بملف خاص، فتح الباب لتساؤلات كثيرة من قبل متابعين حول هذا الاضطراب، من بينها: هل يمكن أن يصيب الكبار؟ وباي مرحلة عمرية؟ لكونه عرف بارتباطة بالسنوات الأولى من الطفولة المبكرة في الغالب، ولا يمكن تحقيق الشفاء التام منه، لأن أسبابه بالأصل غير معروفة لحد الان.
المدعاة لتلك الشكوك التصرفات الغريبة الناتجة من قبل العديد من الناس تجاه بعض الأحداث والمواقف، جراء الظروف الصعبة التي مرت عليهم وتحديات الحياة التي أثقلت تفكيرهم، واسباب اخرى غيرها، ما يجعلهم يعتقدون بوجود اغلب أعراضه لديهم، فبات متداولا وبشكل علني بيننا كلمة (التوحد)، هناك من يصنف نفسه أو يتهم الاخر بصفة المتوحد، وفق ما تظهر على شخصيته من سلوكيات خارج النطاق الطبيعي للبشر.
باعتقادي في زمننا الحالي ليس عيبا ولا يشكل حرجا الاعتراف بالتوحد، اذا استطاع المصاب به تجاوز حالته، والاهتمام بمساعدة نفسه، كونه بمستوى وعي لا بأس به، سواء بالبلوغ أو أكبر عمرا، على العكس من الطفل الذي يحتاج من يعينه ويدعمه لتحسين وضعه اجتماعيا ونفسيا، بأنشطة تعليمية وتمارين علمية تدريبية، ومع ذلك فهناك عباقرة كانوا اصلا يعانون منه منذ الصغر لفترات وعرفوا بتمتعهم بذكاء خارق، جعلهم متميزين عن اقرانهم الأصحاء، وقد انجزوا نجاحات في مجالات مختلفة، بالرغم من أن هناك حقيقة تؤكد أن جذوره تبقى عالقة ومغروسة فيهم لآخر العمر، كل بحسب درجة حدته وشدته لديه.
السبب الشائع لاكتشافه عند الكبار ولو بنسب ضئيلة نوعا ما، والذي يصرح به أغلب المختصين، يكمن في أنهم كانوا يعيشون معه دون أن يشتبهوا باصابتهم به، لذا تشخيصهم جاء متاخرا، حيث يتعسر عليهم التكيف مع مجريات الحياة اليومية ومتغيراتها السريعة الدائمة، وذلك يتحدد من ضمن العلامات الواضحة لديهم برأي الأبحاث والدراسات، التي أشارت إلى أن بعضها مشابهة لما يحصل مع الاطفال.
المشكلة أن إهمال علاج المتوحد والتقصير بمتابعة وضعه، تكون عواقبه وخيمة على ذاته، وكذلك على جميع من حوله، فحينما يترك يتخبط لوحده دون السيطرة على سلوكياته وانفعالاته، والعمل على ضبط مخيلته المغلفة بالمخاوف والقلق الوهمي أحيانا، فإنه سيتحول بالتالي الى قنبلة موقوتة قد تدمر الاخرين بمحيطه وتنتهي به منتحرا.
وذلك يذكرني بقصة رواها لي قبل مدة أحد الاصدقاء، أضحكتني وآلمتني في آن واحد، عن مديره الذي اكتشف بوقت متأخر إصابته بالتوحد، أفصح عن سره هذا له، لكي يكسب تعاطفه معه باعتباره الصديق الوحيد المقرب منه، رغم الاختلافات العديدة بينهما، فقد تأكد من ذلك بعد استشارة اخصائي بهذا المجال، يقول:
كان يؤذي نفسه بطريقة يفرض بها ضغوطاته على المقابل ما يدفعه لكرهه، وبرع فقط بتكوين خصومات وعداوات، لذا لم يحصد الحب والاحترام من أي موظف بالمؤسسة، وبالتالي فانه فشل ببناء علاقات صحية مع زملائه، الذين كانوا يستغربون من غموضه وانعزاله الدائم وتعامله المرضي معهم، حتى مغادرته العمل وخروجه من المهنة، تخلصوا من شره، واحتفلوا بتلك المناسبة.