أيُّ اقـتـصــادٍ لأيّ مــواطــن؟

آراء 2023/08/28
...

  محمود نجم الدين المعمار 

يقف العراق وشعبه وحضارته الضاربة في القدم في مرحلة استحقاق المراجعة الجادة للذات وثقافتها وتوجهاتها وتوقعاتها، بعد أن أنهكتها الانقلابات والحروب وأعمال العنف، التي لازمتها فجعلتها مهيضة الجناح اثر تراكم التحولات الحضارية، التي لم تمهل الفرد العراقي على استيعابها، فتحول الشعب العراقي بعد خلاصه من حكم البعث إلى ما أسماه المفكر الفرنسي (بول فيريليو) في كتابه (السرعة والسياسة من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة) بالدروموقراطية، وهي سلطة السرعة وأن الاكفـأ والأبقى هو من امتلك زمام السلطة والقوة والتطور وهي برأيه جوهرها السرعة،

وهي من سمات العصر الحالي التي فاقمت الازمة عدة عوامل اهمها تراخي الاقتصاد واعتماده على أفيون النفط، الذي قلل حرص المواطن على خوض غمار مقامرة التجارة وتحمل أعباء الزراعة والصناعة، مع وجود البديل الآمن المريح المتمثل بالوظائف الحكومية، الذي شجعته الحكومات المتوالية خشية ولادة طبقة اجتماعية منفصلة عن الدولة (الطبقة الوسطى)، التي بإمكانها فرض متبنياتها لامتلاكها رأس المال الذي من خلاله تستطيع الهيمنة على الأفراد وقراراتهم فآثرت الحكومات المتوالية إهمال القطاع الخاص عن طريق الإهمال المتعمد، وعدم وجود البيئة الملائمة، التي بإمكانها أن تسمح بالتنمية الصناعية والزراعية والجـأت المواطن لسد احتياجاته من دول الجوار خشية هذا 

التكتل.

فطال الترهل الوظيفي جميع مفاصل الدولة حتى بلغ (4.5 مليون موظف) بحسب رأي الخبير الاقتصادي اكرم حنتوش المعتمد لدى الجزيرة، دون وجود انتاج حقيقي يوازي هذا التضخم في القطاع العام, وقدر البنك الدولي معدل ساعات عمل الموظف الحكومي بنحو 17 دقيقة فقط بالاعتماد على عدد الموظفين الكلي نسبة إلى اليد 

العاملة. 

هذا الامر جعل من الوظيفة حلم وطموح كلِّ شاب، عائد مالي عالي مقارنة بالجهد المبذول، الامر الذي شوّه فلسفة العمل في نفسية الفرد العراقي واشاع فلسفة تحفزهم على ازدراء الكفاح لوجود أمثلة للموظف، الذي يقبض اخر الشهر ولا ينتج شيء الامر اللذي صير البعض إلى ناهشين لشعورهم بانعدام العدالة الاجتماعية وهو بحسب (ويل ديورانت) صاحب كتاب( قصة الحضارة) أحد السيناريوهات المحتملة لانهيار الحضارة. 

فبين الحين والاخر نجد تجمعات شبابية، تطالب بالتعيين يتجمهرون أمام إحدى الوزارات، ذلك لانعدام فرص العمل بسبب تدني الاجور في القطاع الخاص وندرتها بسبب مزاحمة العمالة الاجنبية، في الوقت الذي يعاني ربع سكان العراق فيه من البطالة (نقلا عن المتحدث باسم وزارة التخطيط)، ساهم شيوع ثقافة النهش إلى أن يستشري الفساد في المؤسسات العامة ويتحول بفضل البيئة الملائمة من ظاهرة إلى نمط مستدام، وجد من أصحاب رؤوس الاموال زبائن جيدين تحولوا إلى أوليغاريشين متنفذين.

 أدت هذه السياسات لخلق طبقة أوليغارشية استطاعت مراكمة المال من خلال نفوذها السياسي في الدولة، دون أن تخلق فرص عمل لطبقة البروليتارية (الطبقة العاملة)، فصارت البيئة اكثر سمية من البيئة، التي كانت تعاني منها أوربا في عصر النهضة الصناعية، حيث إن شكاوى الظلم كانت تتعالى بعد أن راكم البرجوازيون (الطبقة التي تحتكر وسائل الانتاج) ثرواتهم على حساب البروليتاريين، إلا أن الطامة الكبرى، التي نعاني منها أن تراكم الثروات الآن صار في أيادٍ معدودة، ولا تمتلك هذه الايادي منافذ مشاركة حقيقية، مع كثير من الافراد مما بجعل هذا النظام الاوليغارشي يصل إلى منتهاه.

 فاقم النظام الراسمالي والعصر المتسم بالعولمة الضغط النفسي المؤثر في نفسية الفرد العراقي، الذي خلق من كل ما سبق جدار عازلا من الطبقية، لا يمكن للفرد البسيط تسوره ذلك للانعدام فرص التلاقي بين النخب التي نأت بنفسها واولادها في مدارس ومستشفيات ومقاهٍ ونوادٍ اهلية تكلف الكثير من المال وغالبية الشعب يعاني من الفقر.

فوفق احصائيات وزارة التخطيط العراقي للعام المنصرم أن 25 % من الشعب العراقي يعانون من الفقر، ونظرا لارتفاع الدولار في الاسواق العراقية على الرغم من محاولات الحكومة السيطرة عليه فإن هذه النسبة قابلة للزيادة. 

ساهم التفاوت في الدخل الفردي ومتطلبات الحياة المطردة بزيادة عزلة الطبقات الاكثر فقرا عن النخب، الذي شكل تحديا أمام تكوين رأي عام يتسم بالدقة والموضوعية، مطلقا العنان للخطاب الشعبوي بحكم كثرة المنساقين له والمتبنين له.

تواجه الدولة العراقية تحدياتٍ كبيرة جدا تنتظرها على اعتاب المستقبل القريب، فبحسب تصريح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في يوم الشباب العالمي أن 60 % من العراقيين دون سن 25 عام مما يجعل الدولة أمام تحدٍ لخلق مسارات وظيفية ومرافق تعليمية وصحية وبيئة، كما أنهم على أعتاب الزواج والإنجاب مما قد يولد انفجارا سكانيا مفاجئا والانفجار السكاني، هو اختلال التوازن بين عدد السكان والموارد المتاحة على الأرض، فلو اعتبرنا أن 50 % من النسبة التي ذكرها رئيس الوزراء لم يتزوجوا فلدينا 20 مليون نسمة ولو فرضنا جدلا ان نصف هذه النسبة من الذكور والنصف الاخر من الاناث، فلدينا 10 ملايين أنثى، وبحسب تقدير الخبراء فإن متوسط الخصوبة للمرأة قدر بـ 2.5 طفل لكل امرأة، أي بمعنى آخر 25 مليون نسمة جديدة، تضاف إلى التعداد التخميني، الذي أعدّه الجهاز المركزي للاحصاء في وزارة التخطيط في سنة 2022 خلال السنوات العشر القادمة، ما يشكل تهديدا حقيقيا من حدوث انهيار بيئي مفاجئ في ظل الأزمات العالمية التي تغزو الكوكب، كالاحتباس الحراري والندرة المائية والانفجار السكاني وغيرها.