المساواة

آراء 2023/08/28
...

  عطية مسوح 

(المساواة) عنوان كتاب الأديبة النهضوية الكبيرة مي زيادة، صدر عام 1923. وبرغم مرور مئة عام على صدوره يشعر من يقرؤه اليوم بأنه يحتفظ بالكثير من جدته ونضرة أفكاره.

في هذا الكتاب انتقلت مي زيادة من موقع الأديبة إلى موقع المفكّرة. فقد تناولت مسائل فكريّة كبيرة من التي اشتغل بها الفكر الإنسانيّ منذ قرون, وما يزال يشتغل, وأدلى كبار المفكّرين بدلائهم ساعين للوصول إلى حلول مقنعة لها, لكنّها ظلّت قائمة, وظلّت الحلول المتصوّرة والاجتهادات المختلفة حول تلك المسائل عاجزة عن الوصول إلى ما يمكن الركون إليه والرضا به.

نقول إنّ الكاتبة – وهي من متميّزي عصرها – انتقلت في (المساواة) من موقع الأديبة إلى موقع المفكّرة. 

لكنّ القارئ يلمس أنّها حافظت على خصيصتين من خصائص الأديبة وهي تغوص في معالجة الأفكار المعقّدة, واستعراض تطوّر هذه الأفكار عبر العصور.

الخصيصة الأولى هي محافظتها على ذلك الأسلوب الأدبيّ الذي عُرِفت به, من لغة مشرقة ناصعة وصياغات متينة وخيال شامخ.

أمّا الخصيصة الثانية فهي الذاتيّة التي تُخالط البحث الموضوعيّ والتاريخيّ, فالبعدُ الوجدانيّ بارز في معالجاتها, والتوجّه إلى عقل القارئ ومشاعره معاً واضح من خلال الشحنة العاطفيّة التي تحملها معظم عباراتها. 

وتبرز رفعة الأسلوب الأدبيّ من مقدّمة الكتاب, وترافق القارئ إلى النهاية, وتكفي – مثالاً لذلك – الفقرة الأولى من المقدّمة:

"أما رأيتَ الثريّ تنهبُ الأرضَ سيّارتهُ, كأنّ السعد أقام من الأبّهة والرواء هالة بينه وبين سواه, وهناك في الزاوية يدبّ المُعدَمُ ويعتفي, متأوّهاً كأنّه في تمرّغه حشرة خبيثة تأنف الأرضُ مسّها وتمقتُ انعكاس ظلّها..."

لكنّ حرص الكاتبة على أسلوبها الأدبيّ لم يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على طبيعة البحث الفكريّ, ولم يُضعِف الطابع العلميّ والنزعة الموضوعيّة في مناقشة المسائل الاجتماعيّة 

والفكريّة. 

وهذا ما تؤكّده المؤلّفة منذ البداية فالمقدّمة تنتهي بوضع الكاتبة ما يمكن أن نعدّه جوانبَ من منهجها البحثيّ إذ تقول: (... وهذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية, دون اندفاع ولا تحيّز, بل بإخلاص مَن شكّلت مِن جميع قواها النفسيّة والإدراكيّة محكمة "محلّفين" يستعرضون خلاصة ما تقوله الطبيعة والعلم والتاريخ ليثبتوا حكماً يرونه صادقاً). 

أي إنّها تَعِدُ القارئ بأنّها ستكون موضوعيّة نزيهة في أحكامها ومدقّقة في استخلاصاتها, وأمينة للطبيعة والعلم والتاريخ. ويجد القارئ أنّها حقّقت ذلك إلى درجة غير قليلة, أي دون أن تتخلّى عن الذاتيّة التي لا يستطيع أيّ باحث أن يبرأ منها تماماً.

وكما أرادت الكاتبة أن تكون موضوعيّة في قراءة التاريخ ووضع الاستنتاجات والأحكام, كانت حريصة على التتبّع التاريخيّ لموضوعاتها. 

يفصحُ عن ذلك ترتيب الفصول وتسلسلها. فالفصل الأوّل كان أقرب إلى التأسيس النظريّ, أو وضع مِهادٍ تستند إليه الفصول التالية, وقد حمل عنوان (الطبقات الاجتماعيّة).

أمّا الفصول التالية فقد تناولت تطوّر المجتمعات البشريّة وانتقالها من وضع إلى وضع, أي من تشكيلة اقتصاديّة اجتماعيّة إلى أخرى (وفق التعبير الماركسيّ). 

وإذا كانت الكاتبة لم تستخدم هذا المصطلح ولم تستلهم الرؤى الماركسيّة وهي تبحث في تطوّر المجتمعات فإنّها لم تتناقض معها إلّا لماماً, ولم تكن غايتها أن تُثبت تناقضها معها. 

اقتربت الكاتبة من (المنهج التاريخيّ), ولكنّها لم تتقيّد بخصائصه ولم تستفد منها. فالمنهح التاريخيّ لا يعني فقط تناول الظاهرات وفق تسلسلها الزمنيّ,  ولا يقتصر على الأمانة التاريخيّة في أثناء البحث, وإنّما هو أعمق وأدقّ, إنّه رؤية التطوّر استناداً إلى ثلاثة أركان أساسيّة:

أوّلها تلمّسُ أجنّة الجديد في القديم, أي رؤية البدايات والإرهاصات التي التي لا تكون ظاهرة إلاّ للباحث المدقّق المتمرّس, والتي تؤسّس لجديد يتكوّن في قلب القديم وينمو إلى أن يكون 

بديلاً عنه.

وثانيها أن الجديد الذي ينفي القديم يحتفظ بخصائصه الإيجابيّة القابلة للبقاء, تلك الخصائص التي استند إليها الجديد في نشوئه وامتداده. أي إنّ النفي لا يكون مطلقاً, ولا يتّسم بالعدميّة والإلغائيّة. 

وثالثها هو رؤية التفاعل بين الظاهرات المختلفة في المجتمع, والتأثير المتبادل بين الظاهرة المدروسة والظاهرات المجاورة لها والمتزامنة معها, وكذلك رؤية التأثير الخفيّ أو الظاهر للقديم – التراث – في هذه الظاهرة, سواء أكان إيجابيّاً 

أم سلبيّاً.

قاربت مي زيادة هذه الخصائص في بعض معالجاتها, لكنّها لم تجعلها أساساً راسخاً لتلك المعالجات, ومن هنا لا نستطيع القول إنّها استلهمت المنهج التاريخيّ في البحث, بل نكتفي بالقول إنّها قاربته, وأفادت منه إلى حدّ ما.

ومن أهمّ ما في الكتاب أنّ الكاتبة لم تكتفِ بالعرض والتحليل, بل كان لها رأيها الشخصيّ في معظم ما عرضته. 

نذكر على سبيل المثال رأيها في النظام الديمقراطيّ الذي كان في بدايات القرن العشرين مهوى أفئدة أكثر الباحثين والنهضويّين العرب ومبتغاهم, تقول مي: "بيد أنّ النظام الديمقراطيّ قَصَرَ على تعريف المساواة بين الطبقات والأفراد في الحقوق وأمام القضاء, ونادى بالحرّيّة النظريّة التي تحرّمالاستبداد النظاميّ على ما كانت تجوّزه القوانين في الماضي, ولكنه فاته أنّ هناك عبوديّة اقتصاديّة أشدّ هولاً من أيّة عبوديّة سياسيّة." (المساواة – إصدار مكتبة الهلال – مصر – الطبعة الأولى 1923 - ص 10)

وفي الفصل الأخير تضع الكاتبة رؤيتها الخاصّة على لسان (عارف) في رسالة مُتخيّلة, وتفصح تلك الرؤية عن نزعة اشتراكيّة معتدلة لهذه الأديبة والمفكّرة النهضويّة المتميّزة. كتاب المساواة جدير بالاهتمام في ذكراه المئوية. 


 باحث وكاتب من سورية