رعد أطياف
طالما ما زلنا باقين على قيد الحياة، فيمكننا أن نصنع فارقاً لأجيالنا القادمة قبل أن ينفد النفط. فما يحدث من خراب في العراق هو مقدمة مهمة جداً لأخذ العبرة. يمكنه ان يكون تراكماً مهمّاً ليفضي لنا في نهاية المطاف إلى نتائج إيجابية لو تم استثماره بشكل صحيح، وإلا سنكون أثراً بعد عين.
هذه هي الحياة «تحدٍ واستجابة» ولسنا الوحيدين في هذا المضمار المتعب، فقد سبقتنا إليه معظم الشعوب.
لم تكن الشعوب ذكية وعبقرية بقدر ما كانت تتوفر على نخب من المفكرين ذوي الإرادة الفولاذية فصنعوا الفارق بالتدريج.
أي مرحلة بناء تترافق معها آلام كبيرة وأخطاء جسيمة وضحايا كثر، ويمكن للعراقيين - ولو بعد حين- إيجاد الشكل المناسب لبناء بلدهم من خلال الاعتماد على تجارب الآخرين.
ربما يشهد المستقبل نشوء جمعيات ومؤسسات وتجمعات شبابية تحاول الإسهام في تغيير الواقع وتتعلم من أخطاء الكبار! ويظهر لنا جيل من السياسيين المحنكين، الذين يدورون دفّة الأحداث بحذق ومهارة.
أرض العراق ليست عقيمة إطلاقاً مثلها مثل بقية الشعوب، وكل ما كانت دوافعنا نبيلة ستختزل الزمن وتحرك سكونية التاريخ في منطقتنا التي تتعرض لتحديات جسام.
لم ينتظر الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ترك الواقع كما هو.
ولم يتذرّع بالإحباط والّلا جدوى. كان أمر الصين ميؤوساً منه تماماً، لكنّ الرجل قرر أن يقلب الواقع! بعد غياب للصين تجاوز المائة عام.
نعم يقلب الواقع ولا يكتفي بالموجود.
وعلى يديه خَطَت الصين خطوات جبّارة فتحققت المعجزة ورجعت من جديد الصين الواحدة. كيف يمكن لبلد مثل الصين تعداده مليار وأربعمائة كائن بشري أن يأكلوا ثلاث وجبات ؟!
هذه النكتة غريبة على مسامعنا بالتأكيد، لأننا لحد الآن لم نحقق مقومات الأمن الغذائي.
كان أهل الصين يحتقرون أنفسهم ويتذمرون كثيراً- مثل الشعب العراقي الآن - أمام النهب، و الفساد، و الحروب التي كان الغرب و اليابان يفرضها عليهم.
وبعد مئة عام من التخلّف، والعزلة، وتفشي الفساد، والأفيون، ظهر مهندس الصين، ماو، لتبدأ الصين رحلة جديدة، خصوصاً بعد سياسة الانفتاح على الغرب، فتقدمت الصين، وهي الآن إمبراطورية اقتصادية تشكّل صداعاً مزمناً للولايات المتحدة الأمريكية.
نخبة سياسة مُحَنَّكَة، وشعب مُنَظَم، أحدثت فيه الصين فارقاً مهولاً، وأضحت التجربة الصينية مثالاً مدروساً ومحيّراً في نفس الوقت، لأنها ضربت مثالاً إعجازياً للعالم مفاده: بأن الكثافة البشرية ليست بالضرورة حالة سلبية، باعتبارها تشكّل هدراً للموارد، وإنما مزيد من التعليم والتدريب، بشهادة الاقتصادي الهندي أمارتيا صن، يحدث الفارق؛ ذلك أن شعب يتمتع بالمهارات الحرفية والتكنولوجية، لهو أغنى بكثير من شعب يعتاش على الريع، وإلا ما معنى أن يكون بلد مثل اليابان أغنى من بلد مثل روسيا الغنية بالموارد الطبيعية؟ على أي حال لو أردنا إحداث الفارق حقاً، فبالتأكيد لن تكون الشعارات هي الحل، ولا الارتجالات، ولا النشاطات التي تعتمد على رؤية رئيس الحكومة، إذ سرعان ما تتبخر توصياته عند نهاية فترته الانتخابية.
ما نحتاجه حقاً، تحويل الريع النفطي إلى رأسمال صناعي، ومزيد من التعليم والتدريب لأجيالنا الحالية، وتحويلهم إلى رأسمال حقيقي، بدلاً من تحويل الجامعات العراقية إلى مطابع للشهادات.
فلنتصور أن بلدًا ريعياً مثل العراق، وبكل هذه الثروات النفطية الهائلة، عاجز عن صناعة حقيبة مدرسية، عاجز عن إنتاج لوازم مدرسية، عاجز حتى عن إنتاج حلوى لأطفاله، كيف يمكنه الصمود اعتماداً على الريع النفطي فحسب في ظل عالم يشهد العديد من القفزات التكنولوجية الهائلة، والتي ستكون البديل القادم بقوة عن الثروة النفطية؟
فهل ثمة نور في نهاية النفق؟