الركون إلى اللاعقل: استدلال أم امتهان ؟

ثقافة 2019/05/04
...

د. نادية هناوي
 
يرى ميشيل فوكو أن جوهر أي كائن هو لا عقله، وهذا بالضد تماما مما ذهبت إليه فلسفة ديكارت العقلية التي مقتت الجنون واستهجنته. وقد طرح فوكو منظوره هذا متسائلا: ألا يشكل حدثا مهما في ثقافتنا كون اللاعقل لم يصبح موضوعا للمعرفة إلا عندما وقع بشكل مسبق تحت طائلة التحريم ؟ وقد يصح القول إن المنهجية الاركيولوجية هي التي جعلت فوكو يدرك أن اللاعقل هو الذي يشكل( كل ما هو لصيق بالكائن وكل ما هو متجذر فيه وكل عناصر الحكمة والحقيقة والعقل) وقد لخص منهجيته بجملة مغرية لكنها مستفزة في معطياتها المعرفية في قوله: “لقد حملت المصباح مرارا في يدي، وكنت أبحث عن شيء في وضح النهار”
لا خلاف أن فوكو كان مهتما بالحاجات المفهومية التي لا تتعلق فقط بالموضوع بل بتلك التي تتعلق باللاموضوع. وبدغماطية قرر أن ما هو مستحيل ليس تجاور الأشياء وإنما الموقع نفسه الذي يمكن لها أن تتجاور فيه.
انا والآخر
وفوكو هو الذي عدَّل الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود) إلى ( أنا أفكر في الآخر الذي يفكر فيَّ). وهذا التلاقي ما بين الأنا والآخر هو نتاج الوعي بأهمية الانفتاح والتمرد فضلا عن كونه احتجاجا على نرجسية الكوجيتو. ولقد توصل فوكو الى أن العقل على وفق الفهم الديكارتي غير مبدع جدا، لانه يرى ويدرك ويستقبل الحدس بالبرهان، بينما الحاجة إلى الشعور بالجنون ضرورية كبديل للعقل.
وقد رفض فوكو الذات المتكلمة والذات العارفة والمقومِّة، معللا التحول العقل إلى جنون بأنه حاجة لأنه يعد حافزا ضد المستحيل والمستعصي؛ والذي لا يمكن إدراكه فنحن في حاجة إلى جنون الحب للحفاظ على النوع. ونحن في حاجة إلى هذيان الطموح لضمان سير جيد للنظام السياسي. وبهذا الوصف تتوكد عند فوكو جينالوجيا الذات التي تستبعد المنظور السياقي من زاوية نظر بنيوية لترى الذات بناء مذوتنا في نفسه.
 ولم يكترث فوكو لتاريخ الذات لأن عظمة الانسان تكمن في عزمه على تجاوز وضعه ليكون حرا. وهذا التحرر هو الذي يجعل كل الناس فلاسفة إذا ما تخلقوا بروح الاحتجاج والتمرد.
وقدّم مثالا تطبيقيا في كتابه (الجنون في العصر الكلاسيكي) ربط فيه الجنون الذي عرفه مخيال عصر النهضة ممثلا بسفينة الحمقى بالإقصاء الاجتماعي الذي ظل يلاحق المجذومين قرابة قرنين أو أكثر، قائلا :”ولقد اختفى الجذام لكن بنياته ستستمر وستشهد الأماكن ذاتها نفس لعبة الإقصاء قرنين أو ثلاثة. فقد حل الفقراء والمشردون والخاضعون للإصلاح والمرضى عقليا محل المصاب بالجذام وسنرى أي نوع من الخلاص سيقود إليه هذا الإقصاء للمقصي وللمقصى لقد استمرت الأشكال حية بإحالات دلالية جديدة وضمن ثقافة مختلفة خاصة تلك المتعلقة بالفصل الدقيق الذي يعد إقصاء اجتماعيا ولكن ينظر إليه باعتباره إدماجا روحيا” 
ويحمله ربطه عصر النهضة بالحاضر إلى أن يتساءل برؤية انثربولوجية: هل المخيال الأدبي يتبع ما ساد في ذلك العصر أم العكس؟ وهذا التساؤل يؤكد أن فوكو لا يرى العقل الغربي قد طور بنيات الإنتاج، ودليله حتمية ترابط الماء والجنون في ذاكرة الانسان الأوربي. 
ولقد لعب الإبحار والماء هذا الدور في الماضي فكان المجنون المحتجز داخل مركب لا يستطيع فكاكا منه وقد سلم أمره للنهر ذي الأذرع المتعددة، أي إلى عالم اللا يقين الرهيب خارج كل شيء ..انه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية ..فلا حقيقة له ولا وطن إلا في ذلك الامتداد الخصب في البراري التي لا يمكنه الانتماء إليها. 
وأن حقيقة الانسان المعرفية في حاضره اليوم هي حقيقته في سفينة فيها الماء والإبحار وحدهما يرسمان له مصيره حيث لا هوية ولا انتماء ولا وطن. 
ومن سخرية هذا الوضع أن الجنون سيحل محل الموت، وسيكون في اختصار الذات في اللا كينونة انتقالا إلى التأمل الاحتقاري لهذا الشيء الذي هو الوجود ذاته، وأن الحياة في ذاتها لن تكون سوى تفاهات وكلام عبثي وصخب، فكيف يصبح للإنسان بعد هذا التصور كيان وذات ؟!!
لقد استيقن فوكو أن في دخول الانسان في الجنون سعادة ليس لان الجنون يعيد له البراءة بل لانه يجعله يتحكم في كل شيء يقوم به. وهذا هو الذي حرّك الفلاسفة والعلماء. وإذا سلمنا أن من سمات الزمن اللاتناهي، فعندذاك سيكون الانتماء هو الجنون وهو المرآة التي ترينا أن  الصدام بين الوعي النقدي وبين التجربة التراجيدية هو ما يحرك الإحساس بالجنون، بينما يبقى الانسان المنتمي سادرا في تقوقعه فلا يرى الحقيقة 
والعالم.
ضرورة الجنون
بناء على هذا الفهم يؤسلب فوكو الفكر العقلاني ويسفه نظرته الاستقامية في عد الجنون مرضا عقليا سواء في عصر الكلاسيكية أو عصر الحداثة. وينحاز إلى ما طرحه نيتشه عن كون الجنون ضروريا عادا ذلك بمثابة انفجار ضد الحداثانية، وقد انتهى إلى أن لا وجود لذات أو أنا أو كينونة خارج هذا التمثيل ، مصرّا على أن لا وجود للجنون إلا بالإحالة على العقل. 
ولو افترضنا قبول هذا التمثيل الفوكوي فعندها سيكون تجسد الذات مغايرا للحقيقة مشابها الدوامة، مع أن  فوكو نفسه عاب على ديكارت كيف أنه أغفل الجنون فلم يكن يعنيه وأنه أزال خطره متحصنا بالعقل من الجنون. ثم إذا كان الجنون يساوي العقل في معادلة تجمع بينهما بتواطؤ؛ فإن لا حكمة عندذاك إلا وترتبط بالجنون. وهذا يتلاقى مع القول المأثور(خذ الحكمة من أفواه المجانين) والجميل حقا هو تعريج فوكو على توظيف الجنون في الأعمال الإبداعية لشكسبير وسرفانتس بشكل واضح حيث الجنون هو الحياة اللامتناهية للموت..
صفوة القول إن إثبات حقيقة الوجود والإبداع بحسب ميشيل فوكو لن يكون إلا بمغادرة العقل إلى اللاعقل، وهذه هي حقيقة الجنون التي موقعها داخل العقل كقوة وحاجة آنية تثبت وجود الذات، ومن ثم ليس لهذه الذات أن تثبت كينونتها سوى 
بالجنون.