ابراهيم العبادي
يوصف المجتمع العراقي بأنه مجتمع أحزاب، فتاريخ العراق الإسلامي يضج بعناوين تاريخية كبرى لانقسام الناس إلى اتجاهات فكرية - سياسية تنافست وتصارعت على ارضه وشكلت الجذور الاولى للثقافة السياسية، التي صارت جزءا من التنشئة الاجتماعية ومصدرا من مصادر التثقيف والبناء النفسي والثقافي للفرد، أشهرها على الاطلاق ما يطلق عليه بعض المؤرخين وكتبة التواريخ ومفسريه بـ (صراع الحزب الهاشمي والحزب الأموي)،
إذ شهدت بطائح العراق ومدنه وأماكنه النائية ولادة حركات سرية ذات جذور فكرية وعقائدية، نشطت سياسيًا وخاضت معاركها الأيديولوجية وحروبها الثورية على امتداد قرون، كان العراق ولا يزال ولّادا للفرق والأحزاب المعبرة عن ميول وتفضيلات ومصالح العراقيين، ويوم حلت العشائر محل الاتجاهات السياسية في التعبير عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية. شهد العراق حروب تمردات وصراعات بين العشائر وبين سلطة قاسية لا تعرف غير جمع الريوع الزراعية وفرض الأتاوات على التحالفات العشائرية والقبائل، كانت هذه التحالفات تعبر بشكلٍ وآخر عن مصالح السكان وتحل محل الاحزاب في الدفاع عنها.
قبيل رحيل العثمانيبن وبعد هبوب ريح الغرب الناهض، بدأت تتشكل في أحشاء المدن العراقية الكبيرة انوية لجمعيات مثل النهضة والعهد والاصلاح والعربية الفتاة، متأخرة عما كان يجري في اسطنبول والقاهرة وبيروت ودمشق، حتى اذا تأسس العهد الوطني وولدت دولة العراق المعاصر عام 1921 افتتح الزعيم الوطني محمد جعفر ابو التمن أول رخصة لحزبه السياسي، وفقا لقانون الأحزاب النافذ عام 1922 ليبدأ عصر الأحزاب العلنية الجديدة والحياة السياسية، التي تنازعتها سلطة الانجليز وسلطة القصر وصراعات رجال السياسة، وهم نخبة البلاد التي أدارت العمل السياسي عبر انتخابات المدن وأحزاب الصالونات السياسية وتجمعات الباشوات والشيوخ، معتمدين على شرائح بيروقراطية ناشئة من موظفين ومتعلمين جدد. وأديرت العملية السياسية بين أحزاب النخبة بناء على تماثل الرغبات والمصالح بين برجوازية مدن ناشئة واقطاعيات القرى والبلدات، التي يتزعمها شيوخ القبائل وابناء (الطبقة الحديثة) من موظفين وعسكريين ومحامين وتجار.
كانت أولوية أحزاب وجمعيات العهد العثماني، اصلاحية ليتحول بعضها إلى استقلالية قومية، بينما تمحورت شعارات ومناهج بعض احزاب العهد الملكي الاول حول الاستقلال الناجز وتعديل المعاهدات مع البريطانيين، وتحسين الظروف الاقتصادية والمعاشية، وتوزعت اهتمامات اخرى بين قضايا قومية ووطنية، وتراوح تصنيف هذه الأحزاب بين تيارات محافظة، وأخرى ذات نزعات تحديثية ساعية إلى الأغلبية البرلمانية.
ما لم تتنبه له الطبقة السياسية حينها أن أحزابها الصالونية لم تستوعب طموحات الناس ومشاغلهم واهتماماتهم، لا سيما مع تصاعد وتائر التعليم والوعي السياسي والاحتكاك بالتجارب ودخول الأفكار والأيديولوجيات والنزعات ذات الشعارات التغييرية والثورية، فكان إن شهد العراق ولادة أحزاب أيديولوجية ذات منظومات فكرية نازعة إلى الانقلاب على الواقع الموجود، مثل الشيوعي والبعث والأحزاب الاسلامية، ونتيجة لفشل الاحزاب القديمة في مجاراة الوعي السياسي الجديد، وبغياب تقاليد سياسية وأعراف راسخة تستوعب الجديد وتطور القديم، بدأ التناشز السياسي يتسع بين الاتجاهات السياسية ذات الاختلاف الكبير في التوجهات العامة والرؤية السياسية، حتى دخل العراق ستينيات القرن المنصرم وحياته السياسية ساخنة يجللها العنف السياسي حينا والخصومة الحزبية حينا آخر، والعداء الأيديولوجي والريبة الشاملة على أسس قومية وطبقية ومناطقية ومذهبية في احيان كثيرة.
صنف الباحثون أحزاب العراق إلى خمسة اتجاهات:
الأول: الأحزاب المحافظة، وهي بطبيعتها تريد الحفاظ على الوضع القائم دونما مجازفات ثورية وتغييرية كبرى، فمصالحها ومصالح محازبيها مع المحافظة على الموجود وتطويره تدريجيا.
الثاني :تيارات إصلاحية تنحو نحو الأفكار الجديدة.
الثالث: تيارات ثورية انقلابية، مثّلها الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث لاحقا.
الرابع: التيارات القومية المؤمنة بالحقوق والوحدة القومية، كالأحزاب العروبية القومية والأحزاب القومية الكردية وأحزاب الأقليات.
الخامس: التيارات الدينية ومثلتها الأحزاب الإسلامية والجمعيات وعنوانها الرئيس الأخوان المسلمين (الحزب الاسلامي) حصل على الاجازة لمدة سنة ثم أغلق أبوابه، التحرير الاسلامي (لم يحصل على ترخيص بالعمل وظل حزبا سريا، ثم حزب الدعوة الاسلامية، الذي لم يعلن عن نفسه، ولم يتقدم بطلب الاجازة، سبقته حركتا الشباب المسلم والعقائديين المسلمين.
يلاحظ أن التجربة الحزبية في العهد الملكي ذات المسحة الليبرالية لم ترسخ تقاليد حزبية قادرة على الصمود بوجه متغيرات السلطة، فلم يتبق من أحزاب تلك الحقبة، إلا الوطني الديمقراطي وتوقف عن العمل عام 1960، وتسيدت الساحة الأحزاب الشمولية ذات المنحى الأيديولوجي، ونشطت في الدعاية لفكرها وتمددت اجتماعيا، مستفيدة من متغيرات الوعي السياسي عالميا ومحليا، حيث سادت نزعات التحرر والاستقلال الاقتصادي والسياسي ومواجهة الإمبريالية وقوى الاستعمار ومعاداة الغرب وتأييد المعسكر الاشتراكي، وفي كل مرة كانت الشعارات مستجيبة لهذا الواقع سريع التقلبات، وقد انقسم الشارع العراقي إلى تيارات تقليدية ومحافظة متوجسة من الأحزاب الجديدة ذات الشعارات الطوباوية الحماسية، لكنها مصرة على فرضها بشتى السبل، بما فيها الإكراه والضغط والتهديد والنظر إلى الرافضين لها، على أنهم أعداء ينبغي تجاوزهم بقوة.
مع بدء الشمولية البعثية واضطرار الاحزاب الاخرى إلى النزول تحت الارض وممارسة العمل الحزبي سريا أو مغادرة البلاد ومعارضة ما يجري في الداخل، ظهرت أعراض الخضوع لضغط سياسات الدول المستضيفة ومصالحها واستقطاباتها، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ العمل الحزبي العراقي عنوانها التعددية المفرطة الحاكية عن النرجسية السياسية، وصعوبة التوافق والتوحد وكثرة الانشقاقات والتصدعات المتلاحقة، وظهور المحاور السياسية، التي تدور حول أشخاص وزعامات مع غياب القواعد الجماهيرية والاستعاضة عنها بتجمعات بشرية متحركة متغيرة الولاءات والانتماءات.
خرج العراقيون من عالم الشمولية والاستبداد بلا تجربة حزبية ديمقراطية، ولا عمل حزبيا علنيا في أجواء سياسية طبيعية، بل إن التجربة الحزبية في نصف القرن الماضي، كانت تجربة عمل سري في أغلبها وعملا تعبويا معارضا، مصحوبا بكفاح مسلح وصراعات بينية على من يقود ومن يتزعم وبأي فكر ووفق أي نموذج ونظرية سياسية.