إنهم يتظاهرون بالموت

آراء 2023/09/12
...

سعاد الجزائري

عندما تنهال قطرات المطر، تتوسلها شقوق الارض ويصيح العطاشى:
- خير.. خير.. زدنا يارب واكرم الظمآن..
وقد يصلي الجمع صلاة الاستسقاء لتتصاعد كلمات الدعاء تستقبل الغيوم لتلقي بحمولتها على جفافنا. لكننا اليوم نفقد قامتين كتبا وغنيا للحب والمحبة، ففي العراق انهمر المطر قليلا في السنوات الاخيرة، لكن الحزن ينهال علينا بغزارة موجعة وينتزع منها رموزا عشنا صبانا وشيخوختنا ونحن نغزل وننسج من كلماتهما واغانيهما قصصا عن الحب للاجيال التي قد تفتقد لامثالهما، وقد تنسى الحب لشدة قسوة الحياة التي ستأتي.
مع كل فقدان مبدع أشعر أن الجمال بدأ ينحسر في عراق، قبل ان يعرف الحزن مطرا ينهال عليه، كان ماهرا في صناعة الجمال بكل زاوية مبدع، والقصائد تفترش
خارطته.
فكتب العراق للحب وغناه بتجلٍ صوفي، ونحت العشق في وسط ساحاته وتراقصت اصوات الغناء بين قصص العشق المتطايرة.. واليوم يتساقط مبدعوه الكبار الواحد تلو الاخر، ليتركوا لنا حنينهم وكلماتهم، التي تنقي القلب وتفيضه حبا، يتركوننا لوجع هو اكبر بكثير من تحملنا..وصرنا ضعاف الروح امام ريح القهر.
كتبت صديقتي على صفحتها، في رثاء كريم الشعر وياس الغناء، قولا لجان كوكتو:
(لاتبكوا هكذا فقط تظاهروا بالبكاء، فالمبدعون لا يموتون انهم يتظاهرون بالموت فقط). ليتهم يتظاهرون!
ازدحمت صفحات الفيسبو ك والانستغرام وغيرها، وتصدرت شاشات الفضائيات بخبر رحيل الياس والكريم، أي مصادفة هذه حينما تغادر الكلمة مع الصوت بيوم واحد.. وأي فاجعة ان نخسر جميلين بالقهر نفسه، لكن رحيل مثل هذين المبدعين، وحزن موتهما ينشر هواء المحبة مع دموع الحزن، فالكل نسيَّ أحزان الوطن ومصائبه، وركن خلافاته جانبا، وتوحدوا في توديع الذين تعلمنا من رحيق روحيهما نقاوة الحب والمحبة وجمال الابداع. سيحلم كل سياسي لا يجيد صنع الحب، ولا يتقن الكلام، لكنه يجيد ركن ضميره في زاوية الهجران، سيحلم هؤلاء أن يتذكرهم الناس بهذه المحبة والعظمة، هذا أن بقيت له ذكرى دون لعنات الفقراء.
عرفت كريم في بداية سبعينيات القرن الماضي، ألقى شعرا في جلسة احتفال سري بمناسبة سياسية، يومها قلت إنه يكتب الشعر بالأبرة لرقة كلماته، وافترقنا طويلا لألتقيه عام2017 أو 2018، في أربيل وتعانقنا بنفس محبة عقود مضت، لأننا لا نجيد الا
المحبة. عندما يغيب عن عالمنا هؤلاء، هل يغيب معهم النقاء والجمال الحسي، لأن حجمهم كبير وفراغهم اكبر.